معلومات التواصل

السودان،الخرطوم،الرياض

متواجدون على مدار الساعة

 

 

 

ياسر عرمان

 

اهداء ضد الذكرة المثقوبة ولوقف عدوان مائة عام علي ثورة ١٩٢٤:

 

(الي المناضلة الحاجة نفيسة سرور احمد عضوة جمعية اللواء الأبيض، اليها وقد زعل منعها أهلها والي اخاها عبد العزيز الذي لم يزعل منها حينما انضمت الي جمعية اللواء الأبيض لأنه كان يفهم وفاهم على حد قولها) والي الشهيد ثابت عبد الرحيم والذي اتي من شندي لزيارتها قبل اعدامه.

(الي طلبة الكلية الحربية الذين خرجوا في مظاهرة شاهرين سلاحهم وهتافهم وتم سجنهم في الوابورات بحري لمدة شهر في بابور انجليزي وآخر مصري ثم سيقوا الي سجن كوبر واعتقلوا كل ثلاث منهم في زنزانة وخلدهم شيخ المبدعين إبراهيم العبادي في اغنية شهيرة حرمها الانجليز، يا حليل الطير الرحل لو قريب في زحل التلامذة السكنوا البحر).

كل بلد لها ثروتان، ثروة من صنع الانسان وتاريخه الذي يشكله عبر الحقب فوق الأرض وثروة تشكلها الأرض التي يسمر فوقها الانسان اقدامه. والأرض ليست من صنع الانسان بينما التاريخ الانساني من صنع الانسان والشعوب التي تفرط في تاريخها ستفرط في ارضها ولو بعد حين والانتقاص من التاريخ ينتقص من الأرض والجغرافيا وأكثر الثروات التي لم نحسن استخدامها في السودان هي تاريخنا.

نحتاج تاريخنا مثلما نحتاج ارضنا بل للتاريخ والأرض روابط جدلية ولكي نستطيع ان نوحد بلادنا لابد ان نربط ارضنا بمراسي التاريخ فالذاكرة المثقوبة لا تحيي الروابط الوطنية، والجغرافيا التي لا يسندها التاريخ والثقافة قابلة للزوال وأخطر ما طرحته سياسات الدولة والحروب التي خاضتها في الريف إنها تجاهلت التاريخ والتنوع والانسان، وحاولت توحيد الجغرافيا فانتقصت من الاثنين معا فكل جغرافيا يجب أن يسندها تاريخ لصناعة وجدان وطني مشترك.

السودان يحظى بتنوع تاريخي يمتد الي ما يزيد عن ثمانية ألف عام مما يجعله منطقة فاعلة في حضارات العالم القديم ومساهم رئيسي في تطور الحضارة الإنسانية كما حظي السودان بتنوع معاصر داخل المليون ميل مربع التي قامت عليها الدولة الحديثة في الأول من يناير ١٩٥٦ حينها ضمت تلك الدولة أكثر من (٥٧٠ قبيلة) و(أكثر من ١٣٠ لغة) وهي لغات وليست (رطانة) كما يطلق عليها البعض وبعضها أقدم من اللغات الحية في عالم اليوم، وقد نبه السير روبرت جورج هاو آخر حاكم بريطاني للسودان (١٩٤٧-١٩٥٧) نبه لأهمية الوحدة في التنوع  ففي خطابه الذي القاه في حفل الوداع المقام علي شرفه في الخرطوم قبل مغادرته السودان وعشية الاستقلال وقد تولي حكم السودان لمدة ثمانية أعوام وكأنه كان يقرا في صحف الغيب والمستقبل ولكنه كان يدرك محتوي السياسة الاستعمارية وجوهر سياسة فرق تسد التي استندت علي التنوع والانقسامات التي يحفل بها المجتمع السوداني والتي يمكن استخدامها سلبا وإيجابا ومن المؤكد انه كان علي دراية واضطلاع تام سيما الاحتقان بين شقي السودان شمالا وجنوبا، وقد ذكر في ذلك الحفل ان الحفل شعبي وان الخرطوم وام درمان والخرطوم بحري قلب السودان النابض وقال انكم أيها السودانيون شعوب مختلفة في شمال البلاد وجنوبها وفي غرب البلاد وشرقها وان السودانيين شعوب ذات أصول مختلفة وعادات متباينة وان التنوع يولد حيوية عظيمة  وقد يمثل عقبة كأداة اذا افضي الي نزاعات مدمرة، وان هذه الاختلافات قد تمثل نقطة قوة وقد تمثل في ذات الوقت نقطة ضعف ودعا الي تنمية شاملة للجميع وقد كان خطابه جرس انزار مبكر من شخص ملم بتفاصيل السودان وتضاريسه الاجتماعية وقد ذكر بانه قد قام بزيارة جميع انحاء السودان ماعدا منطقتي الناصر والبيبور ولذلك فهو شديد الإدراك لتعقيدات السودان ويمتلك عين فاحصة ومدربة في استغلال التناقضات لتثبيت الحكم الاستعماري ولقد لخص تجربته برؤية واضحة وسديدة وربما كان يدرك أن زعماء الحركة الوطنية لا يمتلكون هذه الرؤية ولن يهتموا بخطابه وملخص تجربته بقدر اهتمامهم بإكمال مراسم الوداع وتسلم الحكم والصراعات التي دارت حوله.

التنوع التاريخي والمعاصر شكل ملامح الشخصية السودانية المعاصرة وطبعها بطابع فريد ساهم في الحفاظ على الروابط الإنسانية بين مختلف الاقوام الوطنية رغم عجز الدولة واحتقان المجتمع وتصاعد خطاب الكراهية والنظرة الاثنية الضيقة هذه الايام.

 

١٩٢٤ الأهمية والمكانة:

منذ نشأتها في ١٦ مايو ١٩٨٣ اهتمت الحركة الشعبية تدريجيا ولامست بطرق مختلفة الإشارة الي أهمية ثورة ١٩٢٤ فقد أطلق جون قرنق على إحدى كتائب الجيش الشعبي كتيبة علي عبد اللطيف ثم حاول أن ينشئ وكالة للأنباء من رئاسته المتحركة عن طريق الراحل على ميان الذي استشهد معه في رحلته الأخيرة، وكان يساعده في كل ما يتعلق بقضايا الاتصالات الالكترونية وقد أطلق على تلك الوكالة علي عبد اللطيف. في القاهرة حينما التقينا بالدكتورة اليابانية يوشيكا كوريتا  صاحبة المساهمة العظيمة في تسليط الأضواء مرة اخري علي ثورة ١٩٢٤ في بحثها الهام الذي صدر في كتيب من مركز الدراسات السودانية بعنوان علي عبد اللطيف و ثورة ١٩٢٤ بحث في مصادر الثورة السودانية وقد بحثت في مفهوم الوطنية عند جماعة اللواء الأبيض وعن دور العناصر الزنجية المنبتة قبليا في المجتمع السوداني بين عشرينيات و اربعينيات القرن العشرين وبحثها الثالث عن حياة الزعيم علي عبد اللطيف وقد التقيناها و الدكتور منصور خالد وبرفقتها المؤرخ الراحل الدكتور محمد سعيد القدال في القاهرة وقد اهتم الدكتور جون قرنق بهذا اللقاء حينما حدثته عنه وطالب بالحصول علي بحثها باللغة الإنجليزية عن ثورة ١٩٢٤ ولأن التاريخ يبتسم لصانعيه فإن المفارقة والحظ قد ابتسم لعلي عبداللطيف حتي أتت باحثة من اليابان البعيد للمساهمة في ارجاعه للذاكرة السودانية بإضافة ابعاد جديدة في مساهمته التاريخية مثلما حدث في نيويورك حينما التقي الكس هيلي بمالكوم اكس وقام بتسجيل مذكراته.

منذ نهاية الحرب بين الحركة الشعبية لتحرير السودان والحكومة السودانية باتفاق نفاشا وحينما آتينا للخرطوم وفي محاولتنا المستميتة في التحول من حركة كفاح مسلح الي حركة مدنية ديمقراطية ٢٠٠٥ قمت بإدراج ثورة ١٩٢٤ كقضية رئيسية للخطاب السياسي للحركة الشعبية لتحرير السودان وصممت عدة ملصقات ولافتات تضم علي عبد اللطيف وجون قرنق وقد طلب مني الدكتور جون قرنق أن احضر له اللافتة الضخمة التي تضم

صورته مع علي عبد اللطيف وقد قمنا بتثبيتها في واجهه فندق الهيلتون الخرطوم الذي امضي فيه الدكتور جون قرنق الثلاث أسابيع الأخيرة من حياته في الخرطوم قبل رحلته التي شهدت تحطم طائرته ومقتله في حادث مقصود ومتعمد سوف تكشف عنه الأيام مهما طال الزمن، وقد حضر الدكتور جون قرنق الي خارج الفندق وألقى نظرة عليها وقد كان سعيدا بها.

وحينما قمنا بالاحتفاء بالذكري الاولي لتأبين الدكتور جون قرنق في استاد المريخ كانت ضيفة الشرف وسط عشرات الآلاف هي السيدة خديجة عبد الفضيل الماظ وحينما قمت بتدشين حملتي الانتخابية في المنافسة على رئاسة الجمهورية في عام٢٠١٠ اخترت منزل الزعيم علي عبد اللطيف وحاجة العازة محمد عبد الله بحي الموردة بأم درمان أن يكون مقرا لتدشين تلك الحملة وهي إشارة للصلات العميقة بين رؤية السودان الجديد و ثورة ١٩٢٤ واعترافا وتمجيدا وأحياءً لذكري تلك الثورة العظيمة، وفي مدينة واو بجنوب السودان قمت مع إدارة المدينة وحاكمها مارك نبوج بترميم قبر الشهيد الزعيم عبيد حاج الأمين الذي استشهد ودفن في مدينة واو وقد كان معتقلا بها ووضعنا باقة زهور علي قبره وقد زرنا سجن واو الذي اعتقل به زعماء ثورة ١٩٢٤وطالبنا إدارة السجن بالاحتفاظ بكتاباتهم علي جدران السجن. وقد قامت الدكتورة اليابانية يوشيكا كوريتا بمرافقتي الي مدينة ود مدني وحضرت الندوة التي اقمناها كجزء من الحملة الانتخابية لرئاسة الجمهورية في المدينة وقد رافقنا كذلك الدكتور دومنيك أكج محمد، الصديق الحميم لدكتور جون قرنق وقد ربطتهما صلات تعود الي سنوات الدراسة الاولي في الولايات المتحدة الامريكية في نهاية الستينيات ولقد كان دومنيك أكج محمد اول ممثل للحركة الشعبية ١٩٨٣ في الولايات المتحدة الامريكية ولقد اهتمت الدكتورة كوريتا طوال الرحلة من الخرطوم الي مدني بالنقاش مع زوجتي أوور دينق عن تجربتها في الحركة الشعبية.

ومنذ سبعة سنوات مضت كتبت مقالات داعيا للتحضير والاحتفاء بالذكري المئوية لثورة ١٩٢٤ وان ثورة ١٩٢٤ ثورتان ثورة معلومة للجميع وهي ضد المستعمر وثورة اخري داخل تلك الثورة اتسمت بالطابع الثقافي والاجتماعي والسياسي وكانت ترياقا ضد العنصرية وضد ارث تجارة الرقيق وقيمها وثقافتها حينما اختار زعماء تلك الثورة علي عبد اللطيف زعيما لتنظيمهم وللثورة وهي إشارة قوية في صلب المشروع الوطني السوداني.

بعد ثورة ديسمبر دعوت أكثر من مرة وفي حوار مباشر مع قادة الجهاز التنفيذي والسيادي قبل انقلاب ٢٥ أكتوبر للبدء في الاحتفاء بالذكري المئوية وإطلاق حملة واسعة شعبية ورسمية للاحتفاء بالثورة وبقادتها لأن ديسمبر ٢٠١٨ هي امتداد لثورة ١٩٢٤ في كثير من ملامحها وسنتطرق لبعض جوانبها في هذه المحاضرة التي قدمتها في منبر طيبة برس مع بعض الإضافات وإعادة ترتيب.

استدعاء ثورة ١٩٢٤هو استدعاء لعملية شاملة من النهوض عبر مشروع وطني جديد وربطه ببعد ومنظور تاريخي بغية الوصول لتقييم سليم وموضوعي لثورة ١٩٢٤ وإزالة آثار السنين وعدوان النسيان والغبش والتغبيش والأهم عدوان البشر المقصود والمتعمد علي ثورة ١٩٢٤ وقادتها، فهذه الثورة قد تحدت التركيبة والبنية التقليدية للمجتمع السوداني واجترحت طريق جديد في اختيار قيادتها وفتحت كوة من الضوء للاحتفاء بالتنوع السوداني ووفرت فرصة ما للنساء وللمفاهيم الحديثة وتكوين المنظمات والعمل الجماهيري وأسست لتقاليد سياسية جديدة وتحدت الفكر الموروث للطائفية والقبلية وارث تجارة الرقيق وانفتحت علي مفاهيم المواطنة والسودانوية كمفاهيم كبيرة للبناء الوطني، وثورة ١٩٢٤ عبرت عن المفاهيم الحديثة للقوي الاجتماعية الجديدة الصاعدة التي نشأت في خضم مؤسسات الدولة وفي وسط المتعلمين والموظفين والمثقفين الذين يتطلعون الي بناء مجتمع حديث يقوم علي مفاهيم اقرب للمدنية والمواطنة، والعمل الجماهيري السلمي خرج من معطف ثورة ١٩٢٤.

الأهمية والمكانة الحقيقية لثورة ١٩٢٤ تكمن في أنها حركة جماهيرية ذات مشروع للبناء الوطني ذو صلة بمفاهيم المواطنة أكثر من أي مشروع آخر في ذلك الوقت، وقد عملت على تأسيس مفاهيم السودانوية وقد رفض قادتها منذ البداية الإجابة على سؤال الانتماء القبلي وقد حكم الاستعمار البريطاني بالجلد على كل من رفض الإجابة على هذا السؤال والغريب ان أجهزة الدولة الوطنية لا تزال تسأل المواطنين نفس السؤال حتى يومنا هذا بعد أكثر من ٦٠عاما من خروج المستعمر من بلادنا انهم يشربون من نفس الكأس. ان التأكيد على الانتماء الوطني هو ما نحتاجه اليوم ولاتزال الأسئلة التي طرحتها ثورة ١٩٢٤ حاضرة تحتاج لإجابة بعد مرور ما يقارب المئة عام على ثورة ١٩٢٤.

نحن على مشارف مائة عام على قيام اول حركة جماهيرية حديثة، وياء لها من حركة شديدة التعقيدات السياسية والتنظيمية، فقد كان لها امتداد عضوي في المجتمعين المدني والعسكري فزعيمها مع آخرين  ينتمون الي السلك العسكري ويتحدثون بطلاقة سياسية ولديهم اتصالات عميقة بالمجتمع المدني وقد شكل المدنيون الاغلبية ففي الصورة الفتوغرافية التاريخية التي ضمت قادتها، كما كان لها امتدادات في الريف والمدن وشملت افرع تنظيمها مدن هامة كالعاصمة وشندي وبورتسودان والأبيض ومدني وقد انتشرت خلاياها في مناطق عديدة وضمت بعض النساء والتجار والموظفين بالإضافة للعسكريين وقد ساعد ظهور القطاع الحديث وأجهزة الدولة في توسع دائرة انتشارها وبعض زعمائها كانوا يعملون في السكة حديد والبوسة والتلغراف.

التيار الوطني داخل القوات المسلحة المنحاز للحركة الجماهيرية ترجع جذوره  لثورة ١٩٢٤ فبعد القضاء علي الثورة واعتقال بعض زعمائها واستشهاد بعضهم والحكم بالإعدام علي بعضهم تبقي عدد كبير من العسكريين من الأعضاء السريين لثورة ١٩٢٤ داخل قوة دفاع السودان بعد حل الاورطة المصرية ودمج قواتها في قوة دفاع السودان بقرار مباشر من البريطانيين وبذلك انتهت ازدواجية الجيشين و لعل ازدواجية الجيشين قضية قديمة في بلادنا، ومعركة النهر الثانية التي قادها الملازم اول عبد الفضيل الماظ في يومي الخميس والجمعة الموافق ٢٧/٢٨ نوفمبر ١٩٢٤ قد خلفت اثر عميق داخل وخارج قوة دفاع السودان وقد انتشرت الأغاني والاهازيج التي مجدت الماظ وزملائه الشهداء وثورة ١٩٢٤.

 

العلاقة بين المدنيين والعسكريين:

     هذه العلاقة التي تشهد تعقيدات هائلة بعد ثورة ديسمبر ٢٠١٨ والتي لم تحسمها كل الثورات الماضية بإيجاد مشروع يستديم التحول المدني الديمقراطي ويجعل المؤسسة العسكرية تتطبع علاقتها مع المجتمع المدني والحكم المدني في اطار صيغة دستورية تجعل من الجيش جيش مهني تحت إدارة الدولة المدنية، والالتباس في العلاقة بين المدنيين والعسكريين ليست حالة سودانية بل حالة ذات امتدادات عالمية ففي اوروبا مثلا اخذ بلدان مثل اسبانيا والبرتقال واليونان عقود من العمل للوصول الي صيغة ديمقراطية تنهي سيطرة المؤسسة العسكرية علي الحكم المدني وتنهي الانقلابات مرة واحدة والي للابد، كذلك ما تم في أمريكا اللاتينية والجنوبية من مسيرة طويلة للنضال الشاق في انهاء الدكتاتوريات العسكرية وإقامة الحكم المدني مثل ما هو الحال في شيلي والارجنتين وكولومبيا والبرازيل والسلفادور والاكوادور وغيرها وكذلك تجارب الكثير من البلدان الاسيوية  التي خضعت لحكومات شمولية لسنوات طويلة ولعل التجربة الكينية في العلاقة بين المدنيين و العسكريين و توطين الديمقراطية ذات نفع لبلادنا.

لإصلاح العلاقة بين المدنيين والعسكريين في السودان، فان ثورة ١٩٢٤ نقطة هامة ومرجعية في قبول العسكريين الكبار لثورة ١٩٢٤ بصيغة صحيحة للعلاقة بين المدنيين والعسكريين وبمشروع نهضوي أوسع، وإن الزعيم علي عبد اللطيف استحق مكانته كمفكر ومثقف عضوي ركل امتيازات السلطة بوصفه ضابطا في العشرينيات من القرن الماضي حينما كانت رتبة ضابط تعني الكثير من الامتيازات وبدلا عنها  بحث عن ( مطالب الامة) في رسالته الشهيرة بل في افادة اللواء عبداللطيف الضوء للجنة التي شكلها الرئيس جعفر نميري وقد اخذت الروايات الشفهية لثوار ١٩٢٤وأصدرتها في عدة أجزاء ١٩٧٤ تحت رئاسة الدكتور يوسف فضل والدكتور محمد إبراهيم أبو سليم، فقد ذكر اللواء المتقاعد عبداللطيف الضوء انه حينما التقي الملازم اول علي عبد اللطيف في يوليو ١٩٢٢ وقد كان برتبة ملازم ثاني وكان علي عبد اللطيف في الإيقاف الشديد فقد ذكر له الزعيم علي عبد اللطيف ان يبلغ اليوزباشي احمد عقيل ومأمور مركز كوستي بانهم قد كونوا حزب باسم اللواء الأبيض برئاسته ومعه صالح عبدالقادر وعبيد حاج الأمين وحسن صالح المطبعجي وأعطاه رسالة لعدد من العسكريين وعلي الرغم من أن علي عبد اللطيف عسكري لكنه لم يحدثه عن تنظيم عسكري بل عن حزب مدني وهو العسكري في نفس الوقت مما يعني اهتمامات علي عبد اللطيف العميقة بإنشاء منظمة سياسية مدنية واشارته الواضحة للقادة المدنيين كقادة لذلك التنظيم مما يعني بان ثورة ١٩٢٤ التي لعب فيها العسكريين دورا مميزا كان طابعها مدني والأكثر من ذلك انها قامت وأسست العمل الجماهيري السلمي كأول ثورة حديثة طبعت بميسمها ثورات السودان القادمة وعلي القادة العسكريين اليوم ان يأخذوا دروس الفداء والتضحية والإيثار من علي عبداللطيف وعبد الفضيل الماظ و ثابت عبدالرحيم وسليمان محمد وفضل المولي وزملائهم.

تواصل التأثير العميق لثورة ١٩٢٤ علي المؤسسة العسكرية والذي ظهر واضحا في مظاهرة طلبة الكلية الحربية الذين لبسوا لبس خمسة وتظاهروا وطالبوا بإطلاق سرح الزعيم علي عبد اللطيف وقاموا بزيارته في السجن وزيارة منزله و التقوا بزوجته حاجة العازة محمد عبدالله التي نصحتها والدتها كما ورد في احدي الروايات للخروج لمقابلة طلبة الكلية و مشاركتهم بالزغاريد ولقد كانت مشاركتها كأول مشاركة نسائية في نضالنا الحديث في العمل الجماهيري و لقد ضم تنظيم ثورة ١٩٢٤ عدد من النساء بين صفوفه، وبعد وساطة كبار الزعماء آنذاك تخلي طلبة الكلية الحربية عن استعدادهم و تم تجريدهم و ايداعهم السجن  في وابور عائم ببحري عند منطقة الوابورات وخلدهم العبادي في قصيدة كانت تغني في حفلات الاعراس ضد رغبة الانجليز وتقول احد ابياتها (يا حليل الطير الرحل لو قريب في زحل التلامذة السكنو البحر) وهم تلاميذ الكلية الحربية وقد استفادت التنظيمات الوطنية التي انحازت للثورات السودانية في أكتوبر ١٩٦٤ وابريل ١٩٨٥ من ارث ثورة ١٩٢٤في العمل السلمي و انحياز العسكريين للثورات ، والدجي يشرب من ضوء النجيمات البعيدة كما قال تاج السر الحسن فقد شرب دجي اليوم من نجميات ١٩٢٤.

 

الحاجة نفيسة سرور احمد إفادات هامة في مساهمة النساء والعلاقة مع العسكريين:

في افادتها امام لجنة البروفسور يوسف فضل الواردة ضمن الافادات المنشورة من تلك اللجنة في عام ١٩٧٤ بمناسبة مرور(٥٠) عاما علي ثورة١٩٢٤ وعلي الرغم من مضي وقت ليس بالقصير الا ان الحاجة نفيسة سرور احمد وزملائها من ثوار ١٩٢٤ ادلوا بإفادات مثيرة للانتباه وعميقة المحتوي في فهم وتقييم ثورة١٩٢٤ كرائدة تأهيل نظري وعملي في رسم وفتح مجاري العمل الجماهيري المدني السلمي وتعتبر من وجهة نظري ثورة ١٩٢٤ هي ثورة المقاومة المدنية الاولي وما اعقبها من ثورات وانتفاضات جماهيرية سيما في أكتوبر ١٩٦٤ و ابريل ١٩٨٥ و ديسمبر ٢٠١٨ تدين بالفضل لتلك الثورة رغم ان المؤرخين والمثقفين والقوي السياسية والذين تصدوا للعمل المدني المقاوم لم ينتبهوا او اغفلوا تأثير ١٩٢٤ علي العمل السلمي المدني وحركة المقاومة الجماهيرية.

ربما أيضا يصح القول ان اول مقاومة عسكرية في داخل المدن وفي العاصمة تحديدا وفي المدن هي معركة النهر الثانية التي قادها الملازم اول عبد الفضيل الماظ في نوفمبر١٩٢٤.

قالت الحاجة نفيسة سرور ان ادريس عبد الحي جاءها مع جماعة  وكلفوها بخياطة العلم الذي ستتخذه جمعية اللواء الأبيض شعارا لها وطلبوا منها إجراءات احترازية حتي لا يعلم احد بذلك لدرجة ان والدتها قد تركت لها البيت واكملت المهمة عند منتصف الليل او عند الواحدة صباحا وذكرت انها كانت تجتمع مع حاجة العازة محمد عبدالله وبخيتة ام عبد الحميد خير السيد واخريات و انهم كانوا يسعون لقلب الحكومة وذكرت دور الطلبة ومجيئهم لاجتماع في بيت ادريس عبد الحي في الخرطوم بالقرب من منزل علي عبد اللطيف وهذا يدل علي آثر ثورة حركة ١٩٢٤ في قطاع الطلاب وفي بدايات بلورة الوعي الوطني داخل حركة الطلبة الحديثة.

وذكرت في نفس الإفادة ان واحد من المخابرات أراد اعتقالها ولكن مدير المخابرات الإنجليزي رفض اعتقال النساء ولعلهم كان يدرك حساسية اعتقال النساء وذكرت في افادتها المهمة ان الشهيد ثابت عبدالرحيم الضابط في قوة دفاع السودان عضو التنظيم السري لحركة١٩٢٤ جاء من شندي ليقول لها حمد الله علي السلامة لأنها لم تعتقل مع علي عبداللطيف وهذا يعني ويؤكد علي الترابط و التنظيم والمعرفة بين أعضاء التنظيم المدنيين والعسكريين واهتمامهم ببعضهم البعض والدور المفتاحي الذي لعبه الزعيم علي عبداللطيف الذي يمثل الرابط بين المدنيين و العسكريين ووضوح رؤيته السياسية وطوبي لروح الزعيم علي عبد اللطيف بعد مئة عام لمئة عام آتية وطوبي للسودانوية التي تجمع ولا تفرق.

ذكرت الحاجة نفيسة ان المؤيدين لثورة ١٩٢٤ كثر والخايفين كثر وان المظاهرة كان فيها كتير طلعن ومن المهم أيضا إدراك بصمات ثورة ١٩٢٤ في التكوين الجنيني للحركة النسائية الحديثة وسبق للأستاذة الراحلة محاسن عبدالعال ان اجرت مقابلات مع حاجة العازة محمد عبد الله لمجلة (صوت المرأة) التي كان يصدرها الاتحاد النسائي بقيادة الرائدة فاطمة احمد إبراهيم، كل ذلك لم يكن بالمصادفة بل لأن لثورة ١٩٢٤ دور في الصحوة المبكرة للحركة النسائية السودانية الحديثة، كما ان مشاركة  النساء قد تشكلت ملامحها في تلك الثورة وربما جاز القول إن ثورة ١٩٢٤اكثر عمقا من حركة مؤتمر الخرجين وإنها نشأت بالكامل خارج البني والتكوينات التقليدية وتميزت عزيمتها وتضحياتها بالجسارة والصلابة والجراءة في تكوين منظمة حديثة بديلة للقيادات والتكوينات التقليدية.

تذكرت الحاجة نفيسة بصعوبة بعض رفيقاتها مثل بتول عبدالنور وتحدثت عن حسن شريف وعبيد حاج الأمين وعنتر من نمرة٣ وحامد حسين ومزمل علي دينار، وذكرت انهم لم يكونوا خايفين وكتموا السر (وقالت الحق ما كنا بنخاف اصلوا السودانيين شجيعين من زمان ولكن هدفنا حكومتنا تتغير) وهو نفس هدف المقاومة اليوم، ان البذور التي تم زراعتها قبل مئة عام تنموا في الحقول نساء وطلاب وموظفين و تجار وعسكريين ومفاهيم وحداثة ووطنية وتنظيم ان حركة١٩٢٤ كانت حركة للاستنارة توسلت بمفاهيم حديثة ولم تلجأ للبني التقليدية و استخدمت خطابا جديدا في إرساء دعائم المقاومة ، انها كانت حركة للوطنيين والثوار ولم تكن حركة للمنبتين بل ان المنبتين الحقيقين هم الذين قاموا بالمحاولة البائسة و اليائسة لدفن ثورة ١٩٢٤ و اهالة التراب علي تاريخها و تراثها الوطني المجيد و الفريد، و قد آن الأوان ولو بعد مئة عام ان نزيل العدوان الذي استمر علي مدي قرن كامل عن ثورة ١٩٢٤، وان تدخل هذه الثورة المجيدة المجري الرئيسي للذاكرة الوطنية والاعتراف بفضلها وعبقريتها و تأثيرها غير المنكور وغير المذكور في حركة النضال الوطني الحديث.

في عبارات مؤثرة قالت الحاجة نفيسة سرور عن الشهيد ثابت عبد الرحيم قالت (ثابت وجماعتو كانوا بعملو اجتماعات في شندي وان ثابت حينما جاء للخرطوم جا يعني خلاص متسلح للموت عارف نفسو يعني، يعني هم التلاتة الانضريو سليمان وثابت وحسن فضل المولي).

ومعلوم ان شندي قد شهدت مظاهرات جماهيرية وتم اعتقال الشيخ الطيب بابكر والد الأستاذ التجاني الطيب بابكر المناضل المعروف. واذا اخذنا صعوبة الاتصال و العمل التنظيمي قبل مئة عام مقارنة بيومنا هذا لادركنا مدي تقدم وحيوية جماعة اللواء الأبيض، وشهادة الحاجة نفيسة أولا لأنها هي امرأة قامت بما قامت به قبل مئة عام و حديثها المؤثر يدخل شقاف القلب سيما حديثها عن تشتت حركة ١٩٢٤ بعد هزيمتها و عن طلبة الكلية الحربية و إصرار النساء التابعات لثورة ١٩٢٤ علي زيارتهم في السجن وجمع الأشياء لهم حتي افرج عنهم وسافر بعضهم الي مصر، كل تلك إشارات مهمة عن الأثر السياسي و الاجتماعي و التنظيمي لثورة ١٩٢٤، قد اكدت ان الاجتماعات السرية لم تكن تتسرب للمخابرات البريطانية، وهذا يعكس صميميه الانتماء داخل صفوف الحركة، و ذلك في وقت صعب وبدايات العمل التنظيمي والتأمين.

وقد ذكرت الحاجة نفيسة ان الاجتماعات لم تكن بحليفة او أداء قسم ولكن علي حسب الضمائر وهذا أيضا يلقي أضواء كاشفة على الحداثوية والاستنارة في تنظيم ١٩٢٤، وقد اشتكت الحاجة نفيسة من تجاهل الحكومات الوطنية لثورة ١٩٢٤.

ومن المهم التساؤل في يومنا هذا عن دوافع الصمت حيال ثورة ١٩٢٤ هل هي سياسية ام عنصرية ام الاثنين معا ولماذا بذلت محاولات لتغييب ثورة ١٩٢٤ من المجري الرئيسي للتاريخ الوطني ولماذا اكتفينا بالنظرة السطحية لها؟ ولماذا لم تدخل كراسات المدارس؟ ولماذا لم يتضمنها مشروعنا الوطني القديم اوالجديد منذ عام ١٩٥٦ وحتى قبله؟. ان ثورة ١٩٢٤ أعمق وأقرب الي مفاهيم المواطنة والتنوع السوداني من حركة مؤتمر الخرجين التي انتزعت الاستقلال من الاستعمار البريطاني.

ذكرت الحاجة نفيسة بعد خمسين عاما انها حينما تتذكر ثورة ١٩٢٤ (تجينا صدمة وعشان ما كان في نتيجة ويعني الزعل شديد عشان الناس يئسوا كل حد راح في حالو يعني دا السبب الخلانا زعلنا) والي روح المناضلة الكبيرة الحاجة نفيسة نقول بعد ما يقارب المئة عام لا تحزني لم يمضي كل شخص في طريقه وان الطريق مازال سالكا وهنالك نتيجة وبصمات لما تم في ١٩٢٤ حتى مجيء ثورة ديسمبر.

ذكرت حاجة نفيسة ان السبب المباشر لثورة ١٩٢٤ هو المطالبة بخروج الانجليز والتغيير، ان الانجليز قد خرجوا اما التغيير فهو العبد والمعبود والمعبد لابد منه ولو بعد مئة عام وأجيال اليوم تبعث بوافر الحب والشكر لجيل الحاجة نفيسة سرور وثوار ١٩٢٤ وتردد اهازيجهم (يا دولة مالك لي عزالك زهجنا منك روحي في حالك – يا دولة مالك انت ظلومة زهجنا منك يادي حكومة) وهي زهجة (١٠٠) عام لم تنتهي ولم تفك بعد.

 

١٩٢٤السودانوية ترياق العنصرية وآفاق جديدة للبناء:

   ان ثورة ١٩٢٤هي ثورة سودانوية لحما ودما والرابطة بين أعضائها وقادتها هي السودان أولا وأخيرا وتعد نقطة مرجعية من مراجع السودانوية. فقد جمعت تلك الثورة التنوع السوداني في طرح نظري اقرب الي المواطنة بلا تمييز من أي طرح آخر، فان قادتها الشهداء والراحلين الكبار من لدن علي عبد اللطيف، عبيد حاج الأمين، حسن صالح المطبعجي، صالح عبد القادر، حسن شريف، عبد الفضيل الماظ، ثابت عبد الرحيم، سليمان محمد، فضل المولي، الي سيد فرح، فومو اجم، مزمل علي دينار، مدثر البوشي، حسين إسماعيل المفتي، أبا يزيد احمد حسين الشلالي، سيد شحاتة، إبراهيم سعيد عثمان، عبدالعزيز عبد الحي، محمد منعم زايد، احمد عبد الفراج، عثمان عبد العظيم خليفة، قسم السيد خلف الله، باخريبة، علي السيد احمد رخا، علي ملاسي، عبد المولي يوسف مخير، زين العابدين عبد التام، جلاب بشير جلاب، الشيخ الطيب بابكر، محمود بخيت احمد، العازة محمد عبدالله، فوز، امينة بلال رزق، مصطفي بابكر الشيخ، الحاجة نفيسة سرور احمد، احمد سعيد محمد، حاج الشيخ عمر دفع الله الذي قاد اول مظاهرة في تاريخ السودان الحديث في ام درمان، عبدالله مبروك خليل، احمد سعيد محمد، موسي الله جابو، محمد صالح احمد، محمد صالح المك، يا لهذه المنظمة البديعة التي حوت التنوع السوداني قبل ما يقارب المائة عام بشكل لا تستطيعه بعض الأحزاب السياسية وبعض حركات الكفاح المسلح بعد مائة عام، كل هؤلاء السودانيين والسودانيات اختاروا علي عبد اللطيف زعيما لهم وقد يعجز البعض عن هذا الاختيار ولو بعد مائة عام من حدوثه، فإن التنوع السوداني سمه لا تخطئها العين المجردة عن الغرض، وقد قال لاحقا المبدع الكبير المتعدد جوانب الابداع إبراهيم العبادي متأثرا بفسيفساء ١٩٢٤ قائلا (جعلي ودنقلاوي وشايقي ايه فأيداني غير خلقت خلاف خلت اخوي عاداني نبقي ولاد رجل يسري نبأنا على البعيد والداني) ان السودانوية والنيل ماركة مسجلة لثورة١٩٢٤.

 

١٩٢٤ ثورتان في ثورة واحدة:

    الذي ظهر من جبل الجليد ثورة ١٩٢٤، انها ثورة ضد الاستعمار ولكن لثورة ١٩٢٤ اوجه آخر فهي ثورة ضد العنصرية ودعوة من اجل السودانوية فقد نهضت على خلفية الاختلاف في جمعية الاتحاد السوداني وفي وإحدى الروايات المعتمدة فإن الخلاف قد حدث بين سليمان كشة وعلي عبد اللطيف او الرواية الأخرى المعتمدة كذلك فإن الاختلاف كان حول بيان بمناسبة المولد النبوي الشريف والذي تم استهلاله بعبارة أيها الشعب العربي الكريم وقيل ان علي عبد اللطيف قد قال ان السودانيين ليس كلهم من العرب!.

ان اختيار علي عبد اللطيف قد تجاوز ارث تجارة الرقيق وقدم لها صفعة موجعة وهزمها هزيمة ماحقة في ذلك الوقت على الأقل، ولامس حق المواطنة المتساوية في وقت مبكر، فعلي عبد اللطيف الذي ترجع جذوره الي قبيلة الدنيكا من والدته والي منطقة ليما في جبال النوبة من جهة الاب وهي منطقة من مناطق قبيلة الميري والتي ينحدر منها الشيخ علي الميراوي وهو مقاتل آخر ضد الاستعمار ويوسف كوة مكي الباحث عن المواطنة بلا تمييز. وتجدر الإشارة الي ان عبد الفضيل الماظ ترجع جذوره الي قبيلة النوير والدته من قبيلة المورو في غرب الاستوائية، وعبد اللطيف والماظ يشكلان رأس مال معنوي وانساني في الربط بين دولتي السودان حتى العودة الي اتحاد سوداني بين الدولتين.

ان ثورة ١٩٢٤ قد استخدمت الوسائل الحديثة في توصيل رسالتها مثل البريد والبرق وخرجت من ثنائيات التكوين التقليدي للسودان بين عرب وأفارقه وغيرها من ثنائيات ووحدت الوجدان الوطني.

وقد عجزت شخصيات عديدة في استيعاب كنه الثورة وقواها الاجتماعية الحية والجديدة التي صعدت الي السياسة السودانية وهددت مصالح التكوينات التقليدية والطائفية مما دفع ببعض كبار الزعماء لكتابة مذكرة كرام المواطنين ضد ثورة ١٩٢٤ بل في الشهادات التي قدمت للجنة الدكتور يوسف فضل، ورد في تلك الشهادات ان بعض الفئات تصدت بغضب للمظاهرات كما ان بعض كبار المثقفين مثل الأستاذ حسين شريف قد تساءل عمن هو علي عبد اللطيف الي أي القبائل ينتمي وشك في قدرة شخص مثله من القيام بثورة.

ان ثورة١٩٢٤ حملت ملامح جنينية لمشروع وطني جديد وتحدت التركيبة التقليدية للمجتمع آنذاك وقدمت رؤية وقيادة جديدة، وبعد هزيمة الثورة بذلت تعمية ايدولوجية و تغبيش حتي لا تدخل مفاهيم ثورة ١٩٢٤ الي عمق الحياة السياسية وحتي ينطفئ وهج القضايا التي اثارتها بل كانت هناك محاولات لدمغها بانها حركة تابعة لمصر في محاولة لقبر جذورها العميقة في تربة الواقع السوداني ولأن علاقة ثورة ١٩٢٤ كانت مع مصر ثورة ١٩١٩ انها كانت مع مصر الثورة لا مصر الدولة ومع ذلك فإنما ما تبقي من وهج قادتها الافذاذ سيما علي عبد اللطيف وعبد الفضيل الماظ  كان عصي علي النسيان وقد جذب باحثة من اليابان البعيد لتنقب في سيرة هؤلاء الاوفياء الذين ما استبقوا شئيا في التضحية من اجل السودان.

ثورة ١٩٢٤ كانت سباحة ضد المستعمر وضد المكونات التقليدية للمجتمع السوداني في آن معا وشكلت قيادة من القوي الاجتماعية الجديدة الصاعدة وقد اثارت الفزع في وسط المستعمر، وكانت ثورة ضد الكولنيالية في وسط تصاعد المد العالمي ضد الكولنيالية في جميع القارات وكانت كذلك ضد التكوينات التقليدية وبعد هزيمتها جرت محاولات لأسدال الستار على سيرتها وبريقها المضي والذي استطاع تجاوز الازدواجية الاثنية وقدم السودانوية بديلا لها وتجاوز ارث تجارة الرقيق وقد ظل في رمادها وميض نار لم ينطفئ بعد حتى بعد مئة عام.

الحديث الممجوج لدمغ قادة ثورة ١٩٢٤ بأنهم.

 

١٩٢٤ حلقة وصل بين الثورة المهدية والحركة الوطنية الحديثة:

      من تلال الغبن التي خلفتها هزيمة الدولة الوطنية في كرري علي يد كتشنر في ١٨٨٩   ومن رماد الهزيمة تخلق شعور وطني جديد علي يد المتعلمين والمثقفين والموظفين في أجهزة الدولة الحديثة التي أنشأها الاستعمار وبعد ربع قرن  من تلك الهزيمة استخلص الجيل الجديد دروس ما جري وبني رؤية جديدة في مقاومة الاستعمار وقد عبر المقدم احمد عبد الفراج في افادته الشفوية للجنة البروفسور يوسف فضل حسن وفي انتباهه قوية وملاحظة جديرة بالتأمل وهو يتحدث و يؤرخ لمشاركته في ثورة١٩٢٤ بان الغبن الذي تولد من هزيمة الدولة الوطنية قاد الي ثورة ١٩٢٤ ومن المؤكد ان هناك عوامل اخري جديدة ولكن في اعتقادي إن ١٩٢٤ تشكل حلقة اتصال وصلة بين الثورة المهدية و الحركة الوطنية الحديثة وانها اول حزب سياسي سوداني حديث مكتمل الأركان والقيادة والرؤية والمطالب السياسية الواضحة وإن علي عبد اللطيف زعيم الثورة قد استخدم عبارة حزب في رسالته لليوزباشي عقيل والتي نقلها الملازم عبد اللطيف الضوء ووردت في افادته لاحقا وقد ذكر الشهيد عبد الخالق محجوب في مرافعته امام محكمة النظام العسكري بقيادة الفريق عبود بأن ثورة ١٩٢٤ قد خلفت تأثير عميق علي جيلهم وهم الذين آتوا بعد ربع قرن من هزيمة ثورة١٩٢٤ والتي بدورها قد شكلت وعيها من هزيمة الثورة المهدية قبل حوالي ربع قرن من هزيمة المهدية و التأثيرات السياسية سلسلة مترابطة وكل بذرة في الأرض تنمو شجرة زاهية ولو بعد حين.

ولم يقتصر تأثير ١٩٢٤ على الفضاء السياسي فقط، بل ان مثقفين ومبدعين كبار كخليل فرح وعرفات محمد عبد الله والعبادي قد كان لثورة١٩٢٤ تأثيرا على ابداعهم وقد أطلق عرفات محمد عبد الله علي اصدارته اسم مجلة الفجر ولاحقا أصدر عبد الخالق محجوب مجلة الفجر الجديد وصلا واتصالا مع فجر عرفات محمد عبد الله وهكذا يمضي التأثير المتبادل لمسيرة الحركة الوطنية.

وجدير بالتأمل إن علي عبد اللطيف في سنوات سجنه المديدة قد امضي سنوات شارفت السنوات التي أمضاها نيلسون مانديلا وكذلك الأمير عثمان ابوبكر دقنه الذي عاش في سجنه زمانيين، زمان الثورة المهدية وزمان ما بعد هزيمة الدولة الوطنية حتى فارق الحياة في سجن وادي حلفا ونقلت رفاته لاحقا الي شرق السودان وقد اخذ علي عبد الليف الراية من عثمان دقنه. وكتبت مقالة من قبل عن ثلاثية سجن عثمان دقنه وعلي عبد اللطيف ونيلسون مانديلا ولكم نحتاج ان نجسد بطولة الأمير عثمان دقنه وعلي عبد اللطيف كإحدى ايقونات الحركة الوطنية الحديثة وعلينا كما قال الأمير عثمان دقنه ان لا نبيع بالرخيص (يا ود على انا انقبضت علك ما تكون بعتني رخيص).

ومحاولات البعض اخراج ثورة ١٩٢٤من سكة التاريخ الوطني وبانها احدي محطاته الهامة  ناتج في كثير من جوانبه من التحيزات الاثنية وجراءة ثوار ٢٤ في اختيار قيادتهم علي أساس السوداناوية وضد ارث تجارة الرقيق وفي مقاومة للفكر والبنية التقليدية السائدة في ذلك الوقت وبهذا الاختيار فإن ثوار ١٩٢٤ قد فتحوا آفاقا جديدة للبناء الوطني وبذل البعض محاولات مستميتة في تغبية الاتر وتجاوز الجديد الذي اجترحته ثورة ١٩٢٤ والحاقه بالقضايا المسكوت عنها حتي لا تبرز المعاني العميقة لثورة١٩٢٤ وتكون نقطة مرجعية في قضايا البناء الوطني الحديث والحقيقة إن ما حدث في ثورة ١٩٢٤ من ضمن قضايا اخري يستدعي إعادة كتابة تاريخ السودان وقد آن الاوان لتأخذ ثورة ٢٤ مكانها الحقيقي في المجري الحقيقي للتاريخ السوداني الحديث ليس انصافا لقادتها واسهاماتها الجليلة وحسب، لكن ايضا لبناء مستقبل وضاء لشعبنا.

 

ثورة ١٩٢٤ والعمل المدني السلمي الجماهيري:

ثورة ١٩٢٤ جماهير وعساكر ومدنيين وعسكر ولكنهم عسكر في سياق مغاير فقد أدركوا في وقت مبكر أهمية الجماهير وعملوا على بناء جسور مع الحركة الجماهيرية الحديثة وضمت الصورة الشهيرة والانيقة لقادة الثورة مدنيين كبار وزعيمهم عسكري ببدلة مدنية انيقة وهندام حداثوي يتماشى مع فكر الثورة والقوي الاجتماعية الصاعدة التي تمثلها.

انفتاح الزعيم علي عبد اللطيف المبكر علي العمل السلمي المدني والأهمية التي اولاها للعمل مع المدنيين وهو انسان ذو خلفية عسكرية تستحق امعان النظر لا سيما ان هذه الصلة قد أتت ثمارها بتوسع الحركة الجماهيرية واستخدام أدوات جديدة في التنظيم الحديث وفي التظاهر وفي المقاومة المدنية وربما ترجع نشأة الانسان المدني المقاوم التي تطورت لاحقا في معارك الاستقلال وما بعده الي ثورة ١٩٢٤ لا سيما أن الحراك الجماهيري في تلك الثورة قد انتظم في مدن ومناطق جغرافية لا تزال فاعلة في كل الثورات التي تلتها مثل ما حدث في الخرطوم وام درمان والأبيض وبورتسودان وشندي ومدني.

إن بداية العمل المدني الحديث ونشأة حركة ذات امتدادات في الريف والمدن وذات قيادة متنوعة تدين بالفضل لثورة ١٩٢٤، وقد شمل التنوع السوداني قادة الحركة المدنيين والعسكريين. إن الثورات التي اسقطت الشمولية في أكتوبر ١٩٦٤ وابريل ١٩٨٥ وديسمبر ٢٠١٨ استخدمت الشعار والبيان والصورة كأحد ادواتا لعمل الأدوات والدعاية السياسية.

في الندوة التي أقيمت احتفاءً بمرور ٥٠ عاما على ثورة ١٩٢٤ في عام ١٩٧٤ ذكر العقيد محجوب عبد الله عبد السيد ان الاعلان الرسمي عن جمعية اللواء الأبيض قد تم في ١٥ مايو  ١٩٢٤ ومن المعلوم ان جمعية اللواء الأبيض قد تكونت في عام ١٩٢٣ علي اثر خروج علي عبد الليف و آخرين من جمعية الاتحاد السوداني وهي اول منظمة حديثة سبقت اللواء الأبيض ولكن اللواء الأبيض تميزت برسم خطوط فاصلة كمنظمة كفاحية وثورية قادرة علي تقديم التضحيات و ذات مطالب سياسية واضحة ومصادمة للاستعمار وقد حوكم قائدها علي عبد اللطيف مرتين وآخرها لمدة عشرة سنوات بالسجن ونقل علي اثرها الي سجن مدينة واو حيث استشهد عبيد حاج الأمين في ذلك السجن وامتد اعتقال علي عبد اللطيف من واو الي القاهرة حتي رحيله في عام ١٩٤٨ في معتقله و هي فترة توازي مدة سجن الزعيم نلسون مانديلا تقريبا كما ذكرنا من قبل، وعلي عبد اللطيف هو أبو الدعوة للسودانوية في تاريخنا الحديث ومؤسس حركة المقاومة المدنية الحديثة مع زملائه قادة ثورة ١٩٢٤.

 

١٩٢٤ ترياق ضد العنصرية:

في ظل عجز الدولة الحالي واحتقان المجتمع وتصاعد خطاب الكراهية فإن بعض الدواء الجيد يأتي من التاريخ ومن الحاضر الذي شكلته ثورة ديسمبر. إن ثورة ١٩٢٤ تشكل وصفة ممتازة للاحتفاء بالتنوع السوداني والقبول بالآخر وحق الاخرين في أن يكونوا آخرين.

إن قضية المواطنة بلا تمييز هي قضية السودان الاولي المتصلة بالديمقراطية والعدالة والتنمية والثقافة وبالوصول الي مشروع وطني جديد يحقق استدامة الحكم المدني وهيكلة الدولة والتوزيع العادل للثروة والعدالة الاجتماعية واحترام التنوع الثقافي، وهذه القضايا سيما قضية المواطنة والوحدة في التنوع والقبول ببعضنا البعض ونبذ العنصرية والتحيزات الاثنية، فإن لثورة ١٩٢٤ والتشكيل البديع لقيادتها التي ضمت التنوع السوداني لا تزال بذرة صالحة من بذور المشروع الوطني الجديد.

ان ثورة ١٩٢٤ نقطة مرجعية في النضال المستمر من اجل المواطنة بلا تمييز وفي البحث عن مجتمع لا عنصري وفي تبديل خطاب الكراهية بخطاب المحبة وعدم تبديل الضحايا بضحايا آخرين وفي ذات الوقت حق الآخرين في ان يكونوا آخرين والوصول الي سودان يسع الجميع، ان ثورة ١٩٢٤ من وجهة نظري تمثل التشكل الجنيني للبحث عن مشروع للسودان الجديد متكامل مع مكافحة الاستعمار الكولنيالي ان تصميم ملصقات ولافتات في عام ٢٠٠٥ تحمل صور الزعيمين علي عبداللطيف وجون قرنق فذلك  الترابط العضوي بين (ثورة ١٩٢٤) و (ثورة السودان الجديد) لا تخطئها العين علي الرغم مما لحق برؤية السودان الجديد من تشوهات تجعل من اعمال التفكير النقدي لرد الاعتبار لتلك الرؤية العظيمة، و نحو ميلاد ثانٍ لها و ليتزامن ذلك مع الدعوة لوقف العدوان والتناسي والتجاهل لثورة ١٩٢٤ ولنهتف من وادي النسيان وندعو جميع السودانيات والسودانيين و الديسمبريات والديسمبريين للاحتفاء الواسع بالذكري المئوية لتلك الثورة العظيمة في السودان وفي دولة جنوب السودان.

أخيرا ان ثورة ١٩٢٤ ورؤية السودان الجديد هي رأسمال معنوي للوصول لاتحاد سوداني بين دولتي السودان برضا وتوافق شعوب الدولتين والبحث عن مشروع واسع للتكامل الإقليمي افريقيا وعربيا في ظل اضطرابات ومهددات واسعة يشهدها عالمنا الحديث سيما البلدان التي في مثل حالتنا والتي تدافع عن سيادتها ومواردها دون ان تنعزل عن العالم الفسيح.

 

الخرطوم

١٨فبراير٢٠٢٣

 

 

 

 

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *