معلومات التواصل

السودان،الخرطوم،الرياض

متواجدون على مدار الساعة

“أم صميمة” ثمن السلطة

تحليل سياسي : شوقي عبد العظيم

لا شيء يمكن أن يصف ما حصل في معارك “أم صميمة” بدقة أفضل مما وصف به الزعيم الصيني “ماو تسي تونغ” الحرب، عندما قال “الحرب هي السياسة بإراقة الدماء”، ومعركة أم صميمة لم تكن الأولى في إراقة دماء السودانيين، ومنذ 15 أبريل 2023، دماء كثيرة أريقت وأرواح أزهقت ومستقبل تعطل، وحياة كاملة تخثرت، في الشهور الأولى للحرب دُمرت الحياة في الجنينة، وتجلت وحشة الحرب في ود النورة وقرى الجزيرة وفي سنار والدندر والعاصمة الخرطوم، والذاهلون عن الحقيقة ينظرون إلى ما يجري على أنه الحرب، والعالمين ببواطن الأمور موقنون على أنه “السياسة”.

ألفنا الموت

بعد المعركة التي جرت في “أم صميمة” تزاحمت صفحات التواصل الإجتماعي بمقاطع وصور القتلى، قتلى من مواطنين، قتلى من المشتركة، قتلى من الدعم السريع، قتلى من كتائب الحركة الإسلامية، من تم نعيهم ونشر صورهم قادة من كل الأطراف، ومحاربين من كتائب الحركة الإسلامية، بطبيعة الحال هناك جنود مستنفرين ومواطنين بسطاء لم يرد ذكرهم. تزامن مع معركة “أم صميمة” وعلى الجانب الشرقي منها معارك أخرى في “شق النوم ” و” أم نبق” و”فوجا” في المنطقة التي تعرف بدار حامد، لم تكن أقل دموية إن لم تكن أكثر مما جرى في “أم صميمة”، مواقع التواصل الاجتماعي أظهرت أن الموت في أرض السودان بات مألوفا ومعتاد، يعظم هؤلاء القتلى من جانبهم لأنهم قدموا أنفسهم في حرب الكرامة، بينما يعظم الطرف الآخر موتاه على أنهم قدموا أرواحهم لأجل القضية واستعادة الديمقراطية، ومقاتلين المشتركة ينعون محاربيهم الذين قضوا في أرض المعركة بشجاعة وبسالة.

جدوى الموت

موت الشباب السودانيين في الحروب قديم، في جنوب السودان عندما كان البلد واحدا، وتحولت الحرب فيه إلى حرب باسم الدين، وفي دارفور وكردفان والنيل الأزرق، وفي الشرق والوسط، باختصار في كل مدينة ومنطقة حصد الرصاص الناس، في حروب داخلية، تعيدنا إلى الزعيم الصيني “ماو” في حروب سياسية بامتياز تراق فيها الدماء بغزارة.
ما يدعو للتفكير حول جدوى موت الشباب والمواطنين “سنبلة ” وكذلك الجنود وما جرى في المعارك الأيام الماضية، أنها وقعت بينما الآمال التي يعلقها الناس على أن المعركة في نهايتها بانتصار( ما) اتسعت، ورغبتهم في استعادة حياتهم باتت ملحاحة ولا تقبل التأجيل، في ظل ظروف اقتصادية معقدة ومستقبل مجهول، وتأتي هذه المعارك التي أهدرت فيها أرواح جديدة لتؤكد أن حرب 15 أبريل تمضي حثيثا نحو إكمال عام ثالث، وأن الجيوش تتموضع بشكل جديد، والنهاية والنصر بعد (27) شهر من القتال لا يخرج من الدعاية الحربية وتماسك المقاتلين، ولا شيء يلوح في الأفق يقول أن المعركة انتهت، والمجتمع الدولي من واشنطن يجدد قناعته بأن “لا نهاية للحرب في السودان عبر نصر عسكري”.

نهايات مقرونة بالمصالح

المفارقة أن لا يعتبر الناس، حرب 15 أبريل ليست الحرب الأولى في السودان، الحرب التي سبقتها ليست ضاربة في القدم، بل أطرافها شهود، وجلهم إن لم يكن جميعهم مشاركون في الحرب التي تدور اليوم، وكل من يقرأ في هذا المكتوب كان أحد جمهورها، التشابه فيها حد التطابق، كل طرف يقول أنه صاحب الحق، وله مبررات يقدمها للشعب و”المحاربين من المنازل”، وإعلام وضجيج ومصالح لا تنظر للموت والدمار وحياة المواطن البسيط، ينظرون فقط للمصالح السياسية والفوز بالسلطة، والمكاسب الاقتصادية، ثم تأتي النهايات مقرونة بالمصالح ذاتها والمكاسب إن لم تضمن في الاتفاقات لا ينعم من تحاربوا باسمهم بالسلام والاستقرار واستعادة الحياة، لا أظن أن “حرب الجنوب” سقطت من الذاكرة، ساحات الفداء وعرس الشهيد، ورائحة المسك التي تفوح من القتلى، واشاعة أن قرنق قتل، وعبد العزيز الحلو أسر في المعركة، والدبابات جات والدبابين جو، والميل 40، ثم مشاكوس ونيافاشا، ثم الضحك والقهقهة بين قرنق وعلي عثمان، بعد أن رأت الحركة الإسلامية أن تمتعها بثروة النفط لا تجوز مع الحرب في الجنوب، ولا علاقة لوقف حرب جنوب السودان بمصالح الشعب، حرب دارفور التي انتهت باتفاق سلام بعد الاطاحة بحكم جماعة الحركة الإسلامية لا تخرج من هذا الإطار، وشهدت اتفاقات وتفاهمات وعودة للحرب والموت والدمار وانتهت بأن قادتها (المتمردين) في السابق متفقين مع قادة الجيش ويقاتلوا جنبا إلى جنب “مشتركين” ضد العدو الجديد (المتمرد) الدعم السريع، الذي كان يقاتل جنبا إلى جنب مع قادة الجيش الحاليين (المتمردين) السابقين الذين يقاتلونه مع الجيش حاليا فتأمل.

حروب الإضطراب الدائم

من الطبيعي أن يكون للسودانيين والقوى السياسية، والمجتمع المدني رأي في الموت الذي يدور فوق رؤوسهم، وأن يتفكروا في حفظ الشباب والجنود في “أم صميمة” وغيرها من المعارك الدائرة، وما يزيد الأمر تعقيدا أن حرب اليوم لها ثمة اختلاف عن الحروب السابقة، أنها تندرج تحت حروب المستقبل، التي اختلفت عن الحروب التقليدية بالكامل، اختلفت المعركة والقتال فيها، اختلف النصر واختلفت الهزيمة، وعصر حروب المستقبل يعرف ب”عصر حروب الاضطراب الدائم”.

أية قصة ستنتصر

في حرب المستقبل حالة “الـ(لا) نصر والـ(لا) هزيمة” هي الحالة المطلوبة، لأنها أقل كلفة للقادة، وتبعد عنهم شبح الهزيمة، في عصر الإضطراب الدائم، لن يهتم المتحاربون باحترام قوانين النزاعات المسلحة، وسيرتكبون فظائع وجرائم حرب، غير أنهم لن يهتموا بالعقوبة لأن النظام العالمي حسب علمهم تبدل، وفقد كثير من نفوذه وقوته، وفي عمليات الإضطراب ستكون الدعاية وسياسة الإنكار أقوى من السلاح الناري، أصبح النصر فعليا لا يعتمد على أي جيش سيفوز، ولكن على أية سردية ستنتصر، وفي عصر وسائل التواصل الاجتماعي، سيستخدم المحاربون المعلومات كسلاح ذو تأثير أكثر خطورة من المسيرات الاستراتيجية والرؤوس النووية.

من انتصر في حرب الجنوب؟

في المعارك الجديدة، لن ينتصر من قتل أكبر عدد من جنود العدو ويسيطر على أكبر رقعة من الأرض، ينتصر من من حقق هدفه السياسي، والسؤال الذي يتحاشى الكثيرون الإجابة عليه من انتصر في حرب جنوب السودان؟ على الرغم من أن الحرب انتهت باتفاق سلام، الحركة الشعبية لم تحقق نصرا حاسما على الجيش السوداني، وكذلك لم يفعل الجيش، غير أنه بمعايير الحرب الجديدة، الحركة الشعبية انتصرت سياسيا، وبالذات بعد أن طوت علم السودان وعلقت علم الدولة الجديدة أعلى السارية، وما حدث في حرب جنوب السودان حدث في أفغانستان في 2021، التحالف بقيادة أمريكا أنتصر على طالبان في كل المعارك، لكن من انتصر سياسيا هي حركة طالبان.

احفظوا الأرواح والمستقبل

ضجيج دعاة استمرار الحرب سينتهي، وينحسر الغطاء عن فقد ودمار وخسائر فادحة، وحيوات ومستقبل ضائع، وأسألوا من عادوا إلى الخرطوم، والمدن التي أنهكتها الحرب، وأسألوا من فقدوا احبائهم في حروب السودان السابقة، من استقبلوا البكاسي المحملة بجراكن الزيت وجوالات السكر وجماعة أم الشهيد (زغرتي)، وكيف حالهم يوم أن قال علي عثمان يوم توقيع نيفاشا “نترحم على القتلى من الجانبين” ويوم اندلاع الجدل على خلفية الخلاف السياسي شهداء أم “فطايس”، عليه المسئولية الآن على عاتق الجميع، وخاصة من يعلمون النهاية ولا تنطلي عليهم أحاجي الإنتصارات الكاذبة.

حرب تعني السياسة

الحرب عند خبرائها ومفكريها الاستراتيجيون تعني “السياسة”، “كارل فون كلاوزفيتز” صاحب كتاب الحرب وتشرشل رئيس وزراء بريطانيا الشهير قالوا عنها ” الحرب ممارسة السياسية بأدوات أخرى” سبقهم الزعيم الصيني ماو وقال ” الحرب هي السياسة مع إراقة الدماء”، معركة تشكيل الوزارة في بورتسودان الأيام الماضية أصدق دليل على أقوال هؤلاء الاستراتيجيين، حكومة “التكنوكلاش” كما اطلق عليها الصحفي المبدع الزين عثمان، وحكومة “التاتشرات” كما يسميها سابلة التواصل الاجتماعي، أكد بإمتياز أن حرب 15 أبريل حرب سياسية هدفها السلطة، وقطعا ما جرى في حكومة كامل إدريس لا يعدوا كون أنه “مناظر” لما سنراه من الذين أشعلوا الحرب لأجل استعادة السلطة، من جماعة الحركة الإسلامية، والذين لا يهمهم كم هو ثمن السلطة من دماء أبناء أم صميمة، وشق النوم، والخرطوم، والدندر، والجزيرة، لذا على الجميع أن لا يكتفون بالفرجة على موت أهل الوطن بتحريض السلطويين.

 

نقلاً عن صحيفة ديسمبر

Share:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *