“ترسين”.. الانزلاق في الكارثة والجدل
تقارير – استقصائي
في بلاد تتنازع شرعيتها حكومتان ولا دولة.
تنشق الأرض لتبتلع أكثر من ألف سوداني في قرية “ترسين” بجبل مرة.
حتى الناجي الوحيد لم ينجُ، بحسب ما نقلت حركة تحرير السودان بقيادة عبد الواحد نور.
الحركة تبسط سيطرتها على المنطقة.
قالت إن انزلاقًا أرضيًا بسبب الأمطار طمر كامل المنطقة.
أدى ذلك لوفاة جميع السكان الذين يفوق عددهم الألف.
لم ينجُ غير شخص واحد.
أكثر من ألف شخص تحولوا إلى رقم جديد في دفتر “الكوارث” السودانية.
دفتر لا تنتهي صفحاته.
لأحبار التعزية والمواساة التي تنتهي بانتهاء مراسم الدفن. إن تم الدفن أصلًا. الأخبار الواردة تقول إن انتشال الجثث صعب للغاية.
في بلاد أرخص ما فيها أرواح أهلها.
يموتون في الحرب.
تفتك بهم الحميات والكوليرا. يموتون بالعطش في الصحاري. ويموتون غرقًا بالسيول. ثم يستيقظون على فجيعة “ترسين”.
بحسب بيان الحركة، الكارثة وقعت يوم الأحد. تسببت الأمطار الغزيرة بانهيار جبل ضخم.
طمر بعدها الناس وبيوتهم وممتلكاتهم. الأزمة لم تنتهِ هنا. الانزلاق ما يزال يهدد من تبقى من سكان المنطقة. اندفع هؤلاء إلى مكان الكارثة. بحثوا وسط الركام عن ناجٍ أو جثة لدفنها بما يليق.
في الوقت نفسه، دبج كثيرون بيانات التعازي. أعلنوا استعدادهم الكامل لتقديم المساعدة والاغاثة للمتضررين.
ابتدر الأمر مجلس السيادة السوداني.
حدد عدد الضحايا بالمئات. تبعه رئيس الوزراء كامل إدريس.
طالب المنظمات بالتدخل وتقديم المساعدة. لكن أخبارًا خرجت من مصادر أخرى. شككت في عدد الضحايا. اتهمت حركة عبد الواحد بتضخيم الأرقام.
حددت القتلى بشخصين فقط.
كشفت مصادر ميدانية عن تضخيم في الأرقام المعلنة.
أكدت أن منطقة “ترسين” صغيرة واشتهرت بزراعة الموالح. عدد سكانها لا يصل إلى ذلك الرقم. طالب البعض بتصحيح الخبر الأول. الانزلاق في المنطقة لم يكن الأول. سبق أن ضرب منطقة “تربا” عام 2018. وقتها قتل أكثر من خمسين شخصًا. ما جرى في “ترسين” يضعك أمام حقيقة قيمة الإنسان في السودان.
قد يموت بلا سبب.
وقد لا يُدفن أصلًا.
بل يتحول لمجرد سلعة في أسواق تجارة المواقف السياسية.
اتهم البعض حركة عبد الواحد بتضخيم الأرقام لتحقيق أهداف سياسية.
ربطوا ذلك بتصريح الناطق باسمها محمد الناير.
أعلن استعداد الحركة للتعاطي مع سلطتي نيالا وبورتسودان.
ذلك يتضمن اعترافًا بالسلطة الجديدة.
ويعكس الاستعداد للتعامل معها. كما أن تضخيم الأرقام غرضه الحصول على دعم من المنظمات الدولية. بذلك يصبح ضحايا “ترسين” رصيدًا سياسيًا للحركة ورئيسها.
دماء السودانيين المتدفقة مجرد رصيد لجلب الدعم الخارجي. يمكنك قراءة ذلك عبر بيانات المواساة المختومة بطلب الدعم العاجل.
كما برز في مناشدة كامل إدريس.
وقبلها مناشدة حركة عبد الواحد.
وأركو مناوي.
يتحول دم السودانيين في كل مكان لحبر للكتابة.
كتابة يستهدف أصحابها عبرها شرعية لم يحصلوا عليها بخدمات حقيقية للناس أحياء.
عقب تداول الخبر، دفعت جهات سياسية وحزبية بياناتها.
مفادها “نحن هنا”.
لكن البيان اللافت صدر عن رئيس وزراء حكومة تأسيس غير المعترف بها.
أعلن استعداده لتسيير قافلة إغاثة للمنطقة.
بعد التنسيق مع حركة عبد الواحد.
المفارقة أن جيش تأسيس سيحرس القافلة في طريقها لجبل مرة.
وهو ذاته الجيش الذي يحاصر الفاشر.
ويرمي على أهلها مدافع الموت.
الأمم المتحدة حددت عدد الضحايا بين 300 وألف.
واشنطن بوست قالت إنهم حوالي ألف.
حركة عبد الواحد قالت إنهم أكثر من ألف. لكن بيانات أخرى قللت الأرقام.
حصرت الضحايا في شخصين فقط.
منظمة أطباء بلا حدود قالت إن المنطقة لا يمكن الوصول إليها.
كما لا توجد اتصالات.
الأرواح التي انطفأت في “ترسين” انطفأت معها شعلة الأمل.
لا وجود لسلطة همها الناس.
ولا سلطة تحافظ على حياتهم.
بل سلطات متعددة بعقل واحد.
ترى الضحايا مجرد أرقام. “ترسين” ليست كارثة طبيعية فقط. هي مرآة توضح خراب السياسة في السودان. بلد يتعدد فيه الحكام بلا حكومات حقيقية.
ولا مؤسسات ولا مسؤولية. سلطات شكلية تحسب مكاسبها بعدد القتلى. لا بعدد من وفرت لهم الحياة.
سينتهي الجدل حول كارثة “ترسين” حين تحدث كارثة جديدة.
في بلد ينزلق يوميًا نحو انهيار أكبر.
سينتهي الجدل حول أرقام الضحايا.
لكن سيبقى ضحايا الحرب والانهيار هم الحقيقة الوحيدة.