في ذكرى الوثيقة.. حمدان “البلابسة” أم دقلو “القحاتة”
تقارير – استقصائي
في مثل هذا اليوم قبل ست سنوات، كانت الخرطوم تهمس بحلم مدنيتها القادم من قلب ديسمبر. كانت الشوارع تفيض بهتافات الثورة، وتجمع المهنيين يهز الأرض تحت أقدام العسكر. كان الشهداء يرفعون أرواحهم، وأحمد عظمة يردد: “نحن الجيل الراكب رأس، لا يحكمنا رئيس رقّاص”. ابتسامة المحجوب كانت تضيء طريق الغد، والناس يخشون “الكشة” القادمة من النخب والانتهازيين. في 4 أغسطس 2019، تقاسم الدم والثورة المشهد، بين مدنية تحلم، وعسكر يتربص بها. وقع المجلس العسكري الانتقالي وقوى إعلان الحرية والتغيير إعلانًا دستوريًا بوساطة أفريقية. مثّل أحمد ربيع قوى الحرية، بينما وقّع دقلو باسم العسكري، وكأنها وثيقة بين نقيضين. حُملت الوثيقة مقلوبة، كما لو أن الصورة تنبأت بانقلاب لاحق على الثورة نفسها. تمر ذكرى التوقيع، والسؤال لم يعد عن الالتزام بالوثيقة، بل: أين الثورة ذاتها؟ يرى البعض أن الحرب والتشرد هم الثورة، أو نهايتها، فيما يراها آخرون انقلابًا عليها. يتهم البعض الثورة بأنها خلقت الحرب، ويحمّلون قوى الحرية مسؤولية الدعم السياسي للدعم السريع. يرى آخرون أن الحرب مولود شرعي لانقلاب 25 أكتوبر على الثورة ومطالبها المدنية. تتراجع أسئلة الوثيقة، وتبرز تساؤلات حول من وقّعوها، خاصة أحمد ربيع وحمدان دقلو. اختار ربيع معسكر “الكرامة” إلى جانب البرهان، بينما ذهب حمدان إلى خندق الحرب والتأسيس الجديد. شكل أنصاره حكومة “السلام” برئاسته، مع حملة البنادق، رغم أنها انقلبت على سلمية الثورة. خيار ربيع لا يدهش من يعرفه، فقد عاد إلى الجماعة التي تشبهه، واختار أن يحترق معها. أما دقلو، فهو بنظر أنصاره المؤسس الجديد، وراعي الثورة، وبنظر خصومه رمز الانقلاب عليها. ارتبطت الحرب بمحاولة خلق تحالف مدني مع الدعم السريع، لتبرير تمرده وربطه بالثورة. روّج البعض أن حميدتي هو الثورة، وهو نفسه من انقلب عليها، خطاب متناقض لكنه منتشر شعبيًا. ساعد في ذلك انتهاكات الحرب، وجهود تغبيش الوعي، واستغلال مشاعر الناس المنهكين من العنف. لكن لا حاجة للجهد لفهم علاقة دقلو بـ”البلابسة”، فقد ظهر اسمه كقائد مليشيا في 2008. منحه البشير لقب “حمايتي”، وقام بتقنين وضعه في البرلمان عام 2017 وسط تهليل الإسلاميين. الثوار لم يجلبوا قواته إلى الخرطوم، بل واجهوها هناك بالهتاف والأغنيات السلمية. رغم أنه وقّع باسم المجلس العسكري، لم يمنحه الثوار شرعيته أو رتبته العسكرية. شغل منصب نائب رئيس المجلس، وشريكه في انقلاب 25 أكتوبر، ومنحه استقلالية أكبر بقانون التعديل. هو شريك البرهان في الانقلاب، وفي قمع المعتصمين، وسجن المدنيين، وسرقة حلم التغيير. “حميدتي البلابسة” حقيقة واضحة، وحربه امتداد طبيعي لمشروع سلطوي نشأ داخل النظام القديم. نظرة واحدة لمحيطه الحالي تكشف المعسكر الذي ينتمي إليه، دون الحاجة للعودة للماضي. شباب ديسمبر هتفوا ضده بوضوح: “فريق الخلا زولًا بلا”، في وجه من يراه اليوم بطلاً. الخرطوم المدمرة اليوم لا تزال تحمل على جدرانها صرخات الثوار: “ما في مليشيا بتحكم دولة”. لكن المفارقة أن من يقاتل المليشيا اليوم، يتهم المدنيين بخلقها، بدل أن يسعى للقضاء عليها.