معلومات التواصل

السودان،الخرطوم،الرياض

متواجدون على مدار الساعة

أردول .. سياسي قرأ الريح جيدا

استقصائي – مصعب محمد علي

في القاموس السياسي السوداني ظهرت مفردة جديدة: الأرادلة.
لم تولد من فراغ. إنها تلخيص شعبي مكثف لمسار رجل مثير للجدل.
بدأ صوته في صفوف حركة مسلحة.
انتهى مديرا لقطاع الذهب، ثم وجها سياسيا يصطف دائما مع الكفة الأثقل سلاحا ونفوذا.
هكذا تحول مبارك عبد الرحمن أردول من متحدث باسم الحركة الشعبية-شمال، إلى مدير عام للشركة السودانية للموارد المعدنية.
ثم صار من أبرز المدافعين عن فض الشراكة في 25 أكتوبر 2021، وأصبح قياديا في الكتلة الديمقراطية الموالية للمكون العسكري. على طول الطريق، طاردته اتهامات فساد وسوء إدارة. كما لاحقته تسجيلات منسوبة إليه، فيما يدافع هو عن نفسه بلغة المصلحة الوطنية وصحيح المسار.
توقيع العقود

دخل أردول المشهد عبر بوابة الحركة الشعبية-شمال.
كان صوتا مفاوضا وخطابا متمردا يندد بحرب الدولة على الهامش. لكن الاشتراطات القصوى لعبد العزيز الحلو، كما كان يصفها، فتحت له باب الخروج. بعد ذلك جاءت ثورة ديسمبر بفرصتها الذهبية: حكومة مدنية، وإدارات تعاد هيكلتها، وقطاع معادن عطش للانضباط. في مطلع 2020، تسلم أردول دفة الشركة السودانية للموارد المعدنية. منصب بدا فنيا، لكنه سياسي بامتياز في بلد صار الذهب فيه ميزانية ظل ومجال نفوذ.
هنا تحديدا بدأت الحكاية تتغير.
لغة الكفاح انتقلت إلى لغة اللوائح.
صار الرجل الذي فاوض على وقف إطلاق النار يوقع قرارات تخص القطاع الأكثر حساسية في الاقتصاد السوداني.

شهادة ضمان

حين وقع انقلاب 25 أكتوبر 2021، لم يتردد أردول.
سماه فض شراكة واعتبره تصحيحا لمسار العملية السياسية. لم يكن ذلك توصيفا معجميا، بل تموضعا استراتيجيا.
نقله سريعا إلى قلب التوافق الوطني، ثم الكتلة الديمقراطية التي التحمت بالحركات الموقعة على اتفاق جوبا. اصطفت هذه الكتلة خلف المكون العسكري في مواجهة قوى الثورة.
هنا رسخ أردول صورته الجديدة: سياسي براغماتي يختار الضفة التي تملك مفاتيح الدولة.
قدم ذلك بوصفه واقعية تنقذ البلاد من فوضى المدنيين.

ذهب المسؤول

المنصب الذي أداره أردول لم يكن بلا كلفة أخلاقية.
اتهامات متلاحقة طاردته: تبديد أموال المسؤولية المجتمعية، صفقات مشبوهة، محاباة، وبلاغات لدى نيابة مكافحة الفساد.
في المقابل، كان أنصاره يعكسون المشهد: لا تلاحقوا الأشخاص، بل سنوا قوانين تحكم الدولة.
بين الروايتين ظل سؤال يتضخم: لماذا كلما اقترب سياسي من ذهب السودان اختل ميزان العدالة؟
ولماذا تدفن الحقائق في حفر التعدين كما تدفن الوعود في بيانات الصحف؟

صوته المسروق

في يونيو 2023 تفجرت قصة تسجيل صوتي منسوب لأردول.
نفى الرجل، واحتج بأن الذكاء الاصطناعي يمكنه سرقة أي صوت من الإنترنت. لكن الضجيج لم يهدأ.
تداولت تسجيلات أخرى، واشتعلت الاتهامات والتفنيدات. التشويش كان كافيا لطمس الحد الفاصل بين الحقيقة والتلفيق. في صراع كهذا لا ينتصر الصدق، بل ينتصر الظل. يبقى الشك معلقا كغيمة سوداء فوق الاسم، ويترك الجمهور لحدسه المر.

اصطفاف بلا تردد

حين اشتعلت الحرب في أبريل 2023 بين الجيش والدعم السريع، لم يتردد أردول. اصطف علنا مع القوات المسلحة، وشارك في مبادرات حل وطني. ظهر في مشاورات جوبا فبراير 2024 ومؤتمر القاهرة. دعا إلى رؤية انتقالية دون إقصاء، وأكد شرعية الجيش باعتباره المؤسسة الوحيدة المتبقية. في خطاباته، صور خصوم الجيش كتمرد قبلي بلا رؤية.
لكن هذا الاصطفاف بدا، في ميزان الثورة، استمرارا للانحناء ذاته أمام القوة الغالبة.

الأرادلة

لماذا التصقت به وصمة الانتهازية بهذا الحد؟
لأن سيرته لخصت انتقالات النخبة السودانية منذ سقوط البشير. ثائر سابق وجد في الدولة الريعية حقلا لتكنوقراط.
زعم إعادة الانضباط لقطاع يعج بالفوضى والفساد.
ثم صار سياسيا يبرر الانقلاب على الشركاء المدنيين.
ثم منظرا لتوافق يضمن عودة المنظومة بأشكال جديدة. هكذا تحول اسم أردول إلى صفة. صار كل سياسي يبيع شعارات الثورة في سوق الذهب والسلطة ينادى أردوليا.

الباب الخلفي

بين التصريحات والدواوين ظل خيط ملتبس يربط أردول بالإسلاميين.
مرة دعا لإشراك المؤتمر الوطني في العملية الانتقالية دون إقصاء.
ومرة تحدث عن توافقات لحظر الحزب. ثم عاد ليشترط مراجعة التجربة قبل أي تحالف. هذا التذبذب لم يكن تفصيلا.
إنه دليل على المصنع الذي تصاغ فيه الأردلة: خطاب مرن ينفذ من كل الأبواب. حتى باب النظام القديم ظل متاحا حين تضرب العواصف.

فساد الفرد وحده

يمكن اختزال أردول في عبارة: سياسي قرأ الريح جيدا.
لكنه ليس شجرة وحيدة، بل غابة مصالح على ضفاف الذهب والانقلابات.
نقده لا يكتمل إن قُدم بوصفه شذوذا أخلاقيا فرديا. إنه نموذج طبقة جربت الثورة كفرصة لتبديل المواقع، لا لتبديل القواعد. لذلك يكثر حوله حديث المسؤولية المجتمعية، بينما تحرم المجتمعات من مسؤولية الدولة.
ويعلو خطاب التوافق، بينما تقمع أصوات العدالة الانتقالية.
ويرفع شعار “لا إقصاء”، بينما يُقصى الشعب عن قراره.
في زمن الثورة كانت الحاجة لرجال يعترفون بالماضي ويقطعون معه بمؤسسات شفافة وقضاء مستقل.
وفي زمن الحرب صارت الحاجة لرجال يوقفون النار دون إطالة عمر الفساد . بين الزمنين اختار أردول طريقه: طريق السلطة التي يعاد تدويرها مع تبدل الزي الرسمي.
لذلك صار اسمه، بالحق أو بالباطل، مرادفا لقصة الفساد السياسي في السودان. فساد يتغذى من الذهب، ويحتمي بالعسكر، ويعيد تعريف الواقعية كفن السقوط المستمر إلى أدنى درجات المبدأ.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *