Categories: سياسة

من بورتسودان إلى كوستي… يا قلبي، لا تحزن

من بورتسودان إلى كوستي… يا قلبي، لا تحزن

مواهب عبداللطيف – استقصائي

اليوم، من بورتسودان إلى كوستي، يهمس الألم في الأفق، بينما تهيم الأرواح بحثًا عن مأوى في صمت الأرض الجريحة . بورتسودان، التي كانت ملاذًا لآلاف النازحين من مختلف أرجاء السودان، باتت تحت وقع قصف الطائرات المسيّرة. لم تعد الموانئ، التي كانت ذات يوم بوابة الأمل، سوى نقطة انطلاق جديدة للخراب. أما كوستي، التي ظنناها بعيدة عن صخب الحرب، فقد تحولت هي الأخرى إلى ساحة قتال، حيث طائرات الموت لا تميز بين المدنيين والجنود، ولا بين الأيام الصافية وتلك الملبّدة بالموت.

من البحر الأحمر إلى النيل الأبيض، أصبحت هذه المدن – التي كانت يومًا أرضًا للمأوى والسلام – مسرحًا للموت والدمار. بورتسودان التي فتحت أبوابها للنازحين وأهل الخرطوم، أصبحت اليوم ساحة للخراب، وكوستي، التي بدت بعيدة عن شرّ الحرب، وقعت هي الأخرى في دائرة الاستهداف، وتحولت من نقطة هدوء إلى جبهة مفتوحة.

في بورتسودان، حيث كانت الآمال تعانق الأفق، وتظلّ الموانئ دروبًا للنجاة، تحوّلت المدينة إلى مرمى للطائرات المسيّرة، تهتز تحت وقع القصف، وتحمل في طياتها رعبًا جديدًا. كان أهل الخرطوم يرون فيها ملاذًا يلوذون به من دمار العاصمة، ولكن الحرب تلاحقهم كما يلاحق الظل الجسد. الضجيج لا يتوقف، والموت يطرق الأبواب بلا رحمة. وكلما رفعوا أملًا، سقطت الطائرات المسيّرة كما لو كانت تهمس لهم: “لا مكان للسلام هنا”.

أما كوستي، فقد انقضّت عليها الحرب بكل وحشيتها. كانت نقطة أمان نسبي، لكن اليوم، يتبدد الأمل الذي حملته لعدة أشهر. صواريخ الطائرات المسيّرة ضربت أهدافًا استراتيجية: الخزانات، المطارات، الفنادق، والأماكن التي كانت تمثل الرمق الأخير للنجاة. كوستي، مثل بورتسودان، لم تعد أرضًا آمنة.

ما كان يومًا خريطة أمل، بات الآن خارطة حزن جديدة، حيث تزداد المسافة بين الأمن والآمال، وتختفي معالم الحياة الطيبة. النازحون الذين ظنوا أن بورتسودان نهاية رحلة التيه، وجدوا أنفسهم في قلب صراع جديد. ومن بورتسودان إلى كوستي، ومن كوستي إلى مجاهل النيل الأبيض، تواصل الحرب مطاردتها للأرواح، كأنها لا تعرف التوقف، ولا تميز بين أهل الأرض، ولا تعبأ بضعفهم.

الرسائل القادمة من هذه الهجمات لم تعد عسكرية فقط، بل تحمل في طياتها تمزيقًا متعمدًا لما تبقى من جسد الوطن. الحرب تدفع الناس إلى الهجرة بلا وجهة، إلى التشرد بلا أفق، وتعيد رسم خارطة اللجوء كصفحات سوداء تفتقر إلى الأمل. بل أكثر من ذلك، إنها تُعيد تشكيل العلاقة بين الناس، وبين المدن، وبين الأشياء الصغيرة التي كانت تعني الحياة. بورتسودان التي كانت ملاذًا، أصبحت رمزًا للألم، وكوستي التي كانت في هامش المعركة، صارت اليوم قلبها.

لكن البسطاء الذين يفرّون من القصف، لا يسألون عن السياسة، بل عن مأوى لا تنهال عليه الشظايا، عن مكان يظل آمنًا في وطن يتآكل.

كل خطوة نزوح تكسر شيئًا من الوطن. وأمام معاناة هؤلاء النازحين تتداعى كل معالم الحياة الكريمة: من الأمن، إلى الأمل، إلى السلام. كل مدينة تعيش تحت وقع القصف، وكل روح تحمل عبء الحروب التي لا تنتهي. ومع كل هذا الخراب، يبقى السؤال الأهم: هل سيبقى هناك وطن يمكن أن نعيش فيه دون أن ننكسر؟ دون أن نُطارد؟ دون أن يُداس على آخر أحلامنا بالسلام؟

إنها ليست مجرد مدن تنتقل فيها الحرب، بل أرواح تتناثر، وقلوب تنكسر، وذاكرة وطن تُكتب بدماء الأبرياء وذل اللجوء…
لا للحرب نعم للسلام .

shawgi amari

Recent Posts

كيف ينظر السودانيون من وسط نيران موتهم إلى نيران الصواريخ المشتعلة بين إيران والكيان

كيف ينظر السودانيون من وسط نيران موتهم إلى نيران الصواريخ المشتعلة بين إيران والكيان  إليكم…

15 ساعة ago

صدقي كبلو لاستقصائي: لا ثقة في لجان التحقيق الوطنية

الحزب الشيوعي : لا ثقة في لجان التحقيق الوطنية.. ونرفض استغلال مزاعم "الأسلحة الكيميائية" للتدخل…

يومين ago

رصد انتهاكات حقوق الإنسان في السودان

رصد انتهاكات حقوق الإنسان في السودان تقرير - رحاب مبارك سيد أحمد | 11 يونيو…

6 أيام ago

وادي حلفا: محتجون يطردون المدير التنفيذي مع استمرار أزمة الكهرباء

وادي حلفا: محتجون يطردون المدير التنفيذي مع استمرار أزمة الكهرباء استقصائي - مصعب محمد علي…

6 أيام ago

رئيس الوزراء بين جلسات التصوير في “بورتسودان” وحقيقة الصورة في السودان

رئيس الوزراء بين جلسات التصوير في “بورتسودان” وحقيقة الصورة في السودان استقصائي – تقارير تواصل…

7 أيام ago

مسؤولون ليبيون يتهمون عصابات سودانية باختطاف جنود ليبيين

مسؤولون ليبيون يتهمون عصابات سودانية باختطاف جنود ليبيين خاص - استقصائي اتهم مسؤولون ليبيون، يوم…

أسبوع واحد ago