حكايات عن حسكا
مصعب محمد علي
في تلك الايام التي عشناها معا في بورتسودان لم يكن حسكا يصنع دهشته بصوت عال بل بتلك اللمسات الصغيرة التي تقع في الهامش ثم نكتشف لاحقا انها كانت المتن كله
اذكر مرة اننا كنا نسير في احد شوارع بورتسودان وقت الظهيرة والحر خانق والمدينة تبدو كأنها استسلمت مؤقتا للشمس توقفنا فجاة امام بائعة شاي مسنة تجلس تحت ظل شجرة
طلبنا قهوة وجلس الى جوارها وسالها بجدية
انت بتتعبي ولا الدنيا بتتعبك
ضحكت وارتبكت من السؤال ثم حكت عن يومها عن اولادها عن الام اسفل الظهر
وحسكا كان صامتا يصغي كأنه يسمع قصة وجودية نادرة ثم نهض ووضع ثمن القهوة مضاعفا وقال لي وهو يمضي
الزولة دي محتاجة زولها يسمعها اكتر من انو تبيع شاي كانت دهشته في انه يرى ما نتجاوزه كل يوم
وفي مرة اخرى ضللنا الطريق ونحن عائدان ليلا كنت متوترا احاول الاتصال باحد الاصدقاء لنعرف اين نحن بينما كان هو ينظر الى البيوت بعين الالفة قال فجاة:
احب الشوارع البتضيعك بتذكرك انك ما مسيطر على كل حاجة
ثم طرق باب بيت عشوائي ليسال عن الاتجاه خرج رجل نصف نائم وحين دلنا شكره حكسا باسهاب مبالغ فيه كأن الرجل انقذه من غرق مشينا بعدها دقائق ثم قال بابتسامة خفيفة شايف الغربة الحقيقية ما في الطريق الغربة في انك تخجل تطلب مساعدة
كان يملك موهبة تحويل التفاصيل اليومية الى اسئلة كبرى دون ان يبدو فيلسوفا كنا نجلس مرة في مطعم شعبي بسللاب وكان التلفاز يبث نشرة اخبار صاخبة فجاة خفض الصوت وقال لصاحب المطعم:
اقفل التلفزيون لو سمحت
سأل الرجل باستغراب ليه؟
اجابه حكسا بهدوء كامل
الاخبار دي ما مستعجلة نحن المستعجلين نمش
ضحك صاحب المطعم واطفا التلفاز وعادت الاصوات البشرية الى المكان
حتى سخريته كانت نوعا من الحكمة المتخفية سالته مرة
انت شنو اكتر حاجة بتخاف منها
لم يفكر كثيرا وقال اخاف اصحى يوم وما القى نفسي مستغرب من الدنيا كان يرى الدهشة شرطا للبقاء
واذكر ايضا انه واجه احد ضباط الشرطة المنهمك في سرد امجاده كأن الماضي بطاقة تعريف ابدية حكسا لم يرفع صوته ولم يتصنع الغضب قال فقط ما يشبه القطع النضيف مع الوهم
يا زول سجل شريط ذكرياتك دي في اضان ناس غيرنا نحن ما بنحب الكاكي اصلا
وحين حاول الضابط ان يمد المشهد انهى محمد محمود الاستعراض بجملة تشبه الاغلاق الاخير
يازولة قوم لف ورانا حاجات اهم
لم يكن ذلك استهانة بل استعادة لمعنى الانسان حين يرفض ان يكون جمهورا لزيف يتكاثر
هذه الحكايات الصغيرة التي تبدو عابرة الان هي ما يجعل الغياب اكثر وطاة لانها تكشف ان حسكا لم يكن يمر بالحياة بل كان يلتقطها قطعة قطعة ويترك لنا اشارات خفية لنفعل الشيء نفسه لم يعلمنا كيف نعيش لكنه جعلنا نخجل من ان نعيش بلا انتباه.
ربما لهذا السبب حين غاب لم نفتقد شخصا فقط بل فقدنا طريقة خاصة في رؤية العالم طريقة تجعلك تتوقف فجاة تنظر حولك وتقول في سرك كان حسكا سيلاحظ هذا وكان على الاغلب سيبتسم.
