فضيحة أردول الأخيرة ..درس “البلابسة” البليغ
تقرير – استقصائي
جمع أموال من عملاء الشركة السودانية للموارد المعدنية التي يديرها، مكالمات مسربة مشحونة بالنميمة والعبارات المنحرفة، محاولات تبييض صورته عن طريق دفع المال، الدخول في معارك وهمية والهروب من مواجهة أسئلة الشفافية حول أموال شركة المعادن، والاكتفاء بالمشاهد الاستعراضية، وسلسلة من المراوغة السياسية، مكالمات مسربة مع أفراد في جهاز الأمن والاستخبارات العسكرية عن تقوية نفوذ (الجنرال)، وضمان التفوق له، وعن صفقات بملايين الدولارات، غير أن الأخيرة هي الفضيحة الكبرى بمتياز، لكون أن أبطالها نوعيون وفي ظروف استثنائية، ظروف الكل يرفع شعار التجرد والوطنية، ونكران الذات، وفي ظل حكومة لا يتعدى عمرها شهر أو زد عليه قليلا، وأن أحد ابطالها وزير المعادن الجديد، صديق بطل الفضيحة مبارك عبدالرحمن أردول، المدير العام للشركة السودانية للموارد المعدنية السابق، والمدير العام لشركة ” دييب ميتالز” حاليا، والتي يمكن أن ترفع عاليا على أنها نموذج لاستغلال النفوذ والمنصب الحكومي في بلد غارق في الحرب والفوضى.
الجارحي وديب ميتالز وأركيديا
أنتشر الخبر انتشار النار في الهشيم، وكالة السودان للأنباء – الوكالة الرسمية- أول ضحايا الصفقة المشبوهة، تولت نشر الخبر والذي أكد توقيع وزارة المعادن في صفقة مع شركة “ديب ميتالز” يملك رجل أعمال المصري محمد الجارحي 47% من الأسهم، وأن رجل أعمال سوداني، ومبارك عبدالرحمن أردول أحد المساهمين فيها، والشركة المصرية – السودانية، حصلت على حق الاستثمار في منجم أركيديا، إلى جانب مصنع ذهب واستثمارات أخرى، قيمتها 277 مليون دولار، وانتشر الخبر مصحوبا بصور وزير المعادن الجديد نور الدين طه، وهو الوزير الذي جلس على الكرسي عنوة ضاربا بمعايير الاستوزار عند رئيس الوزراء المعين كامل إدريس عرض الحائط وفي ذات الوقت تربطه صداقة وطيدة مع بطل الفضيحة أردول صداقة قوية واشتركوا في فضيحة المكالمة المسربة من عربة أجرة في مصر، وحدثت بينهما جفوة غير أن المياه عادت إلى مجاريها، في حال كتبت عبارة من العبارات أعلاه، “الجارحي، ديب ميتالز، أركيديا” ستجد مئات الأخبار المنشورة، ولكن بعد قليل ستجد مئات المواقع تنشر بيانات تأكيد وأخرى نفي، ووكالة السودان للأنباء كانت في مقدمة من نشروا نفيا للوزارة وذيل بضرورة التحري في نقل الأخبار من مصادرها.
أردول: اغتنام الفرص
ربما تفوق أردول على جميع من ظهروا في المشهد السياسي بعد ثورة ديسمبر المجيدة في المقدرة على اغتنام الفرص، أولى هذه الفرص كانت الشركة السودانية للموارد المعدنية، عندما كانت من نصيب حركة جيش تحرير السودان بقيادة مني أركو مناوي، هي ووزارة المعادن بحسب اتفاق سلام جوبا، ولما كانت العلاقة بين قائد الدعم السريع نائب رئيس المجلس السيادي وقتها محمد حمدان دقلو حميدتي ومناوي على أفضل حال، ذهب أردول إلى حميدتي متخذه شفعيا حتى لا يطاح به من قبل جماعة أردول، ونجح في ذلك، وهذا يفسر فضيحته الأولى، والتي تتمثل في حصوله على تبرعات من شركات التعدين التي تخضع لرقابة الشركة التي يديرها أردول، وأن ترسل التبرعات إلى حسابه الشخصي والغرض منها – وهذا مربط الفرس- الصرف على حفل تنصيب مني أركو مناوي حاكم إقليم دارفور الجديد، والذي هو صاحب قرار الابقاء على أردول مديرا أو الاطاحة به، وكادت هذه الفضيحة الأولى أن تبعده عن بريق المعدن الأصفر وثراءه، وبعد جلسة تحقيق مطولة في مجلس الوزراء كان قرار حمدوك منحه فرصة ثانية، أيضا مراعاة للتوازنات وأن لفت الانتباه ربما يفيد، على الرغم من أن آراء بعض المسئولين أن يبعد فورا حتى لا يكرر أحد هذه السقطة بعده ومن بينهم خالد عمر يوسف وزير شؤون مجلس الوزراء، وفي الحقيقة مثلت هذه السقطة بداية طريق جديد لصائد الفرص مبارك عبدالرحمن والذي بات في عداوة مع المدنيين، قريبا ممن يحققون له فرص الثراء والنفوذ السياسي، ولا شأن لهم بالشفافية والمحاسبية وقوانين الخدمة العامة.
من صفحة أردول
فضيحة صفقة “ديب ميتالز” انتشرت في السوشل ميديا، وكانت الصحفية رشان أوشي أول من فجرها، وعلى صفحتها الخاصة، وعلى طريقته المعتادة في هكذا مناسبات عمد إلى تهديد الصحفية، وذكرها بمواقف سابقة شبيهة، ولكون أنها قريبة من القيادات، لمز بوساطة قديمة لحل خلاف مشترك وقال لها “ستطلبين العفو”، وبعد انتشار الخبر، وانكشاف أمر الشركة، وأنها ليست أجنبية، ولا تملك من رأس المال المعلن إلا القليل، نشر على صفحته، نفي الشركة “ديب ميتالز” للخبر، وجاء فيه:
توضيح للرأي العام بشأن شركة ديب متالز للتعدين
تداولت بعض منصات التواصل الاجتماعي معلومات غير دقيقة حول شركة ديب متالز ورغبتها في الاستثمار بقطاع المعادن في السودان، وعليه تود الشركة توضيح الحقائق التالية للرأي العام:
1. شركة سودانية وطنية: ديب متالز شركة سودانية مسجلة تعمل في مجال التعدين، يمتلكها مستثمرون برأسمال وطني وأجنبي، بما يعكس ثقة الشركاء في فرص الاستثمار بالسودان.
2. الملكية والإدارة: ملاك الشركة هما الأستاذ عمر النمير والأستاذ محمد الجارحي، ويديرها الأستاذ مبارك أردول كمدير عام.
3. مرحلة الرغبة لا التعاقد: الشركة لم توقع أي عقد بعد، وإنما أبدت رغبتها الجادة في الاستثمار في قطاع التعدين بالسودان، وفق الأطر القانونية والإجرائية المعتمدة.
4. حجم الاستثمار: حددت الشركة رأس مال استثماري معلن قدره 277.3 مليون دولار سيتم توجيهه للعمل في أنشطة الاستكشاف والتعدين وغيرها بما يتيحه القانون السوداني في مجال التعدين.
5. مجالات النشاط: ستعمل الشركة في ولايات محددة، بالتركيز على استكشاف معدني الذهب والحديد، وذلك وفق قانون تنمية الثروة المعدنية ولوائح وزارة المعادن في السودان.
6. التعاون مع المستثمرين الوطنيين: ستعمل الشركة بالتعاقد والشراكة مع المستثمرين السودانيين العاملين سابقًا في القطاع، لتعزيز التكامل وتبادل الخبرات.
7. القدرة الفنية والمالية: تتمتع الشركة بقدرات مالية معتبرة، واستقدمت خبرات فنية متخصصة لدعم مشاريعها المستقبلية، بما يضمن إضافة قيمة حقيقية للاقتصاد الوطني.
8. بداية النشاط: الشركة لم تبدأ نشاطها بعد، وهي بصدد استكمال المتطلبات والإجراءات القانونية قبل الشروع في التنفيذ الفعلي.
وعليه، تؤكد شركة ديب متالز أن ما يثار خلاف ذلك في بعض وسائل التواصل الاجتماعي غير صحيح، وتدعو الجميع لاستقاء المعلومات من المصادر الرسمية للشركة.
إدارة شركة ديب متالز للتعدين
٥ سبتمبر ٢٠٢٥م
من البيان الذي وجد في صدر صفحة أردول الشخصية والذي أريد منه تبييض وجهه ووجه الشركة، ستكتشف عورات بائنة، وهو للأمانة وضح إشكالات الصفقة، التي احتفت بها وزارة المعادن، ودفعت به خبرا رئيسيا في الوكالة الرسمية، مبشرة باستثمارات وفوائد للأمة السودانية، إلا أن البيان أكد ان الشركة سودانية، وأن ملاك الشركة هم المستثمر السوداني عمر النمير، إلى جانب المصري محمد الجارحي، ومدير الشركة السودانية للمعادن السابق، صديق وزير المعادن الحالي نور الدين طه مديرا لها، لم يكتفي البيان في توضيح ذلك للرأي العام فحسب ولكنه كشف أن الشركة قررت التراجع عن الشركة وقالت أن التعاقد لم يتم، على الرغم من أن رجل الأعمال المصري وعلى صفحته هلل للصفقة ونشرتها عدد من المواقع الصحفية الرسمية، والمفارقة أن التوضيح أورد ذات مبلغ الصفقة الذي نشرته الصحفية رشان 277.3، قطعا هذا الارتباك ناجم عن محاولة إخفاء شيء ما عن الرأي العام، وخاصة أن الرأي العام في مناطق النزوح ومشرد في دول الجوار ويعاني ويلات الحرب.
الوزارة : عاري من الصحة
وزارة المعادن، وفي سبيل الخروج من مربع الفضيحة، قررت المشي في طريق بيانات النفي، سنورد نفي نور الدين طه وزير المعادن وجاء فيه والمفارقة أنه في سونا:
“وزارة المعادن تنفي توقيع أي اتفاقية استثمارية مع شركة ديب ميتالز” سونا
بيان صحفي
تناولت عدد من الجهات أن هنالك ثمة اتفاقية استثمارية بقيمة تتجاوز ال 277 مليون دولار تم توقيعها بين وزارة المعادن وشركة ديب ميتالز للتعدين وحيال هذا الخبر العاري من الصحة، تود الوزارة ان تبين الحقائق التالية:-
* ترحب حكومة السودان بتدفق رؤوس الأموال الوطنية والأجنبية وبخاصة من شركاء القطاعين العام والخاص في الدول الصديقة والشقيقة وتسعى وزارة المعادن على تهيئة المناخ الملائم للاستثمار في قطاع المعادن.
* أبدت شركة ديب ميتال – شأنها شأن الشركات الأخرى – رغبتها في الاستثمار في قطاع التعدين في السودان، وبالطبع ستلتزم بالأسس والضوابط المرعية التي تنظم العمل الاستثماري في بلادنا بشقيه الوطني والأجنبي ، و تحرص حكومة السودان على التعاون اللصيق مع كافة الراغبين في الاستثمار في المجالات الحيوية في بلادنا معتمدة على مبدأ العدالة والشفافية في طرح الفرص الاستثمارية المتاحة للجميع وإخضاعها للشروط المنظمة لهذه العمليات دونما محاباة او مجاملة.
* لم توقع وزارة المعادن اي اتفاق او مذكرة تفاهم مع شركة ديب ميتالز حتى تاريخ هذا البيان ولم تلتزم باي التزام عقدي او قانوني تجاه اي جهة.
* ترحب حكومة السودان بكافة شركات الاستثمار الأجنبية، والشركات المصرية الراغبة في الاستثمار في مجال التعدين في السودان على نحوٍ خاص، وذلك استنادًا للعلاقات الأزلية والمشتركات الكبيرة التي تربط بين شعبي البلدين، وهذا فضلًا عن أواصر الصداقة والتعاون والاحترام القائمة بين السودان ومصر..
* تنسق وزارة المعادن مع رصيفتها في جمهورية مصر العربية وعلى تفاهمات تهدف للحد من ظاهرة التهريب والنشاط الاقتصادي غير المنظم في مجال التعدين بما يخدم مصالح الشعبين في البلدين الشقيقين.
* تبين الوزارة أن الجهات التي تحاول التشويش على هذه المساعي ، جهات مغرضة، تسعى للحد من استقطاب راس المال الأجنبي لخدمة أهداف التنمية في بلادنا، بل و تسعى بشكل حثيث لتخوين الجهود المبذولة من الدولة في سبيل جذب وتشجيع الاستثمار الوطنيّ والأجنبي لفائدة بلادنا وشعبها الأبي. كما لا تعدو هذه المحاولات عن كونها محاولات يائسة ومتكررة ومفهومة لتثبيط الهمم وتخويف رؤوس الأموال من الدخول إلى سوق الاستثمار في السودان
* وإزاء الادعاءات التي تقف وراءها بعض تلك الجهات وادعت أن هناك اتفاقًا قد وقع بين وزارة المعادن وشركة ديب متيالز ان تقدم ما لديها من الأدلة والبيانات التي توضح مدى مصداقية ادعاءات، وتدعو الوزارة تلك الجهات لتقديم تلك الأدلة وما يدعم ادعاءاتها للقضاء حتى تبت في هذا الأمر على نحو يحفظ للبلاد وللشعب حقوقه المكتسبة وان لا يتجاسر احدً مهما علا شأنه على التلاعب بمكتسبات الأمة.
* في الختام؛ تتقدم وزارة المعادن بالشكر الجزيل لكل الحادبين على مصلحة الوطن وتصدوا الافتراءات المغرضة وحتى لا يقع العامة في فخ وشراك تلك الجهات، تدعو وسائل الإعلام كافة إلى الالتزام بالمصداقية وتحري الدقة، وأخذ الحقائق من مصادرها الرسمية بالوزارة . كما تجدد الوزارة تأكيدها بأن أبوابها ستظل مفتوحة أمام الإعلام لتمليكهم المعلومات الحقيقية.
إعلام وزارة المعادن
بيان وزارة المعادن لا يعدو من كون أنه هروب للأمام، حاول ان يوحي بان الصفقة عظيمة ومجدية وأن جمهورية مصر العربية شريكة وورد اسمها في البيان أكثر من مرة، بعد أن قال “لا توجد صفقة ولا يحزنون” ثم عمد إلى لغة التخوين والوعيد ونظرية المؤامرة، تماشيا مع أجواء الحرب ونظرية الاستهداف، وكان يمكن أن يورد ما جرى بكل شفافيةولا يحتاج إلى هذا البيان المطول المضلل أكثر من كونه يوضح
مربع “أركيديا” (1-2)
ضمن معلومات الصفقة المشبوهة، ورد أن شركة محمد الجارحي، حصلت على 80% من امتياز منجم اركيدبا، وهذا لم يرد ذكره في بيانات النفي، ولكن مصادر صحفية ومن بينها صحيفة تاق برس، نقلا عن الصحفي طلال مدثر،كشفت عن أن أركيديا مربع وليس منجم، أو بالأحرى مربعين وكلاهما في ولاية نهر النيل، منح إلى رجل أعمال سوداني ثم نزع منه بعد أن غيبه الموت، ولكن المعلومة الجديدة والمهمة التي أوردها موقع تاق برس نقلا عن الصحفي طلال مدثر أن مربعي أركيديا تم إجراء المسوحات الأولية والاستكشاف من رجل الأعمال الأول وشركته أركيديا، وأن الدراسات كشفت عن كميات ذهب معتبرة فيهما وخاصة المربع الثاني الذي لم يباشر الحفر فيه، وهذا ما يضع أردول عينه عليه، وفقا للمعلومات التي حصل عليها بموجب موقعه مديرا للشركة السودانية للمعادن، وهذا ما يستوجب يقظة من حراس المال العام والشفافية، لذلك هل ننتظر أن يرد نفي خاص يتعلق بمعلومة استحواذ محمد الجارحي على 80% من مربع تعدين لم يطرح للمنافسة.
شركة المعادن: حلم لن ينتهي
بعد حادثة أموال تنصيب مني أركو مناوي، تبين أن أردول لن يفارق مقعد المدير العام للشركة السودانية للموارد المعدنية بسهولة، ويبذل جهدا مضاعفا للبقاء مستفيدا من هذه الامتيازات، وفعليا فارق أردول مجموعته السياسية وتضامن مع انقلاب 25 أكتوبر 2021، ومال للعسكر وقدم لهم ما يريدون، غير أن كل ذلك لم يشفع له، وخاصة بعد المكالمة المسربة التي تعرض فيها لقائد الجيش عبد الفتاح البرهان، ولكن الحادثة الأخيرة، كشفت أن أردول لا يزال وسيظل يحوم حول مورد الذهب وتجارته، ويبدو أنه ووزير المعادن نورالدين طه لن يبخلوا على بعضهم في تبادل الخبرات والمنافع
هل هي الأخيرة؟
ربما من يدفعون خلف “حرب الكرامة” لا يعلمون أن هناك منافع من هذه الحرب، يحصدها قادتها، ولا يمكن أن يحصلوا على هذه المنافع إلا في أجواء الحرب واستمرارها أطول ما يمكن، ولعل أردول قدم درسا بليغا لـ”البلابسة” أنصار الحرب، ولكن السؤال الهام، هل فضيحة شركة ديب ميتالز هي آخر فضائح، أردول أم أن هناك فرص أخرى وفضائح أخرى تنتظره.
نقلا عن صحيفة “ديسمبر” العدد 19