معلومات التواصل

السودان،الخرطوم،الرياض

متواجدون على مدار الساعة

عبد القادر سالم حين نزفت كردفان غاب الفنان

تقرير – استقصائي

فجرُ الثلاثاء لم تجد أم درمان، المدينة المثقلة بالأسى، ما تستفتح به صباحها سوى أن تُرسل أنينها مترنمًة:

“حليوة يا بسامة، الفايح النساما… الريدة في قلوبنا والله علاما، طالبين سلاما ما تبقى ظلاما… خيا دي الدنيا، هي دي الدنيا معدودة أياما.”

انتهت الأيام المعدودة رحل عبد القادر سالم. واخبرنا ابنه محمد في تسجيلٍ مصوّر، وصوته يرتجف والدموع تسبقه: «استردّ الله أمانته». غادر الحياة من كان الله قد خطّ على وجهه الوسامة الصادقة؛ كان عبد القادر جميلًا، وكان فنانًا وموسيقيًا وأستاذًا، كردفانيَّ الجذور، سودانيَّ الروح، نقابيًا وإنسانًا مثقل القلب بأهله، مشغولًا بالناس، أكثر من انشغاله بنفسه، بين الفنانين.

في نهارٍ حزين، أهيل تراب حمد النيل على جسد سالم. ودّعه الرجال بالدموع في أم درمان، وعلى مثله فلتبكِ البواكي. بعد تسعةٍ وسبعين عامًا أسدل الستار على مسيرته. وُلد عبد القادر سالم عام 1946 بمدينة الدلنج، بولاية جنوب كردفان، وعاش فيها جزءًا كبيرًا من عمره. بدأ حياته معلمًا، ثم سلّم قلبه للموسيقى، فالتحق بالمعهد العالي للموسيقى والمسرح عام 1970، ونال البكالوريوس، ثم واصل دراساته العليا؛ ماجستيرًا عام 2002 عن الغناء والموسيقى لدى قبيلة الهبانية، ودكتوراهً عام 2005 عن الأنماط الغنائية في إقليم كردفان ودور المؤثرات البيئية في تشكيلها.

في مسيرةٍ ابتدأت مطلع سبعينات القرن الماضي، قدّم سالم موسيقى الجراري والمردوم والشاشاي، وحوّل إيقاعات كردفان ومفرداتها إلى لوحةٍ غنائيةٍ متفرّدة. تفرد بكونه “السالم” المحبوب، المهموم بالناس، الساعي لنقل المحمول الثقافي السوداني إلى العالم. “السالم” في إنسانيته، أو كما وصفه الفنان كمال ترباس: «عبد القادر سالم بصلك قبل عربية الإسعاف». جملةٌ لخصت سيرة إنسان جعل المبادرة والوقوف مع الآخرين، والاحتفاء بآلامهم قبل أفراحهم، نهج حياة. ويمكن رؤية هذا المعنى حيًّا في دموع الفنان أبو عركي البخيت وهو يودّع سالم إلى مثواه الأخير؛ عبد القادر الذي زحف على ركبتيه ليطمئن على أبو عركي في أم درمان، المدينة المحاصرة بالحرب. وهو ذاته عبد القادر سالم الذي واجه قاتل الفنان خوجلي عثمان في نادي الفنانين، وتلقى الطعنات بثبات حتى قُبض على الجاني.

في لحظةٍ مأساوية تشبه حزن السودان ذاته، حيث الحرب والنزوح والتصدّع اليومي، غاب صوت البلاد الكبير الدكتور عبد القادر سالم بعد مسيرةٍ فنية امتدت لأكثر من أربعة عقود، شكّل خلالها علامةً فارقة في الغناء السوداني، محفورة في الوجدان الوطني، وموصولة بجذور الأرض والهوية.

فات، تاركًا كردفان التي طالما غنّى لها ومنها، وهي تعيش أقسى فصولها الإنسانية: موتًا وتشريدًا ونزوحًا وقتلًا وحربًا أتت على الأخضر واليابس. لم يكن مجرد مغنٍ يردد بصوته الجميل: «مكتول هواك أنا يا كردفان»، بل كان عاشقًا حقيقيًا للأرض والناس. مات سالم يوم قُتلت كردفان بالحرب؛ حين امتلأت القيزان بالجثث، وحين اصفرّ ليمون بارا كأنها شيخوخة الأرض نفسها. مات حين سقطت شجرة ظلّنا الكبير، وحين ردّدت التبلدية: دي سكة عطش. مات حين غاب “جميل الصورة”، وصارت الكاميرات لا تلتقط سوى الموت. مات حين منعه جرح الدلنج المحاصرة من الغناء، وحين قطعوا طريق “اللوري”، وحين أعدموا المريود بتهمة التعاون. مات حين اتّكأ فرع السلام في بلد “الحليوة البسامة”، ومات حين صارت بلادٌ كاملة “بتخاف من الريد”.

رحل، فلم يعد قلبه العامر بمحبة السودان قادرًا على احتمال هذا النزيف. اختار مكانه في حمد النيل، وهو الذي حجز مكانه منذ زمن في قلوب أهل السودان جميعًا.

مضى سالم، لكن إرثه الموسيقي وتراثه سيبقيان منارةً للأجيال القادمة؛ فنانًا آمن بأن الوفاء للأرض يمكن أن يكون مشروعًا فنيًا، وصوتًا لا ينطفئ ولا يغيب. انطفأ مصباحٌ آخر من مصابيح الضوء في أكثر أيام السودان قتامة، وخبا صوتٌ كان يداوي الجراح بنبرته، وقبلها بأفعاله النبيلة.

فات، وترك صوته جزءًا من وجدان الناس، سيبقى أثره حيًا في السمع والمعنى والحنين. فات، وترك الجميع في رحلة البحث عن “بياع الصبر”، يردّد على الحاضرين: الصبر ما بنباع. فات، وخلّانا مع الأوجاع وهل من وجعٍ أكبر من وجع سودانٍ فقد صوت ود سالم؟ ذاك الذي غادر الحياة، ولم يغادر أبدًا توصيفه الأزلي: حبيبنا، ود الناس، الذي سيظل لينا دائمًا وناس

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *