ندرة “الحضانات” أطفال يواجهون شبح الموت
استقصائي- نهر النيل – 15 يوليو 2025م
تقرير – لبنى عبد الله
في ظل الانهيار شبه الكامل للنظام الصحي في السودان بعد اندلاع الحرب في 15 أبريل 2023، يواجه الأطفال حديثو الولادة والخدّج خطر الموت نتيجة النقص الحاد في الحضّانات ووحدات العناية المركزة في مختلف أنحاء البلاد. وبينما يصعب حصر عدد وفيات الأطفال جراء هذا التدهور، يؤكد العاملون في القطاع الصحي أن غياب الإبلاغ الرسمي، وتوقف نصف المرافق الصحية بما في ذلك أقسام الإحصاء، يحجب الأرقام الحقيقية.
كما أن التردي الأمني يجعل زيارة المستشفيات خيارًا صعبًا، والتي في غالب الأحوال لا تتوفر فيها الرعاية الطبية في أدنى مستوياتها. غير أن نقص “حضانات” الأطفال حديثي الولادة والخدج أو (وحدات العناية المركزة لحديثي الولادة) بات أحد أسباب موت الأطفال في السودان.
«حملته وتوجهتُ إلى المستشفى القريب من مكان سكني، لكننا فوجئنا بأن جميع الحضانات كانت مشغولة، ولم تتوفر حضانة لطفلي المريض»
حضانات الأطفال: لا بديل
عقب نزوح المواطنين إلى ولاية نهر النيل، وتحديدًا مدينتي عطبرة وبربر، بحثًا عن الأمان، بعد أن وصلت الحرب مدن وسط السودان، والجنوب الشرقي، ومناطق واسعة في الغرب، تأثرت الخدمات الصحية بشكل مباشر في عطبرة وبربر، وخاصة أقسام الأطفال، ولم تحتمل زيادة تردد المرضى عليها. ولما كانت الحاجة لـ”حضانات” الأطفال حديثي الولادة والخدج لا يمكن تأجيلها أو مشاركة الأطفال فيها أو توفير بديل لها، أصبحت مشكلة تواجه أسر الأطفال ومقدمي الخدمة الطبية على حد سواء، وهي كما وصفتها إحدى الطبيبات: “عدم وجود الحضانات سبب رئيس لفقدان الأطفال المرضى حياتهم”.
أم: “لم أتمكن من إنقاذ حياة طفلي”
“لم أتمكن من إنقاذ حياة طفلي”، هكذا قالت حميدة حسن، وحميدة بعد نزوحها من ولاية الخرطوم عقب اندلاع الحرب، أقامت بدار الإيواء الكائنة بجوار مستشفى بربر، وعندما وضعت طفلها الأول أصيب بالتهاب بعد أسبوعين من خروجه للحياة، تسبب له في ضيق تنفس حاد، وقالت حميدة لـ(استقصائي): “حملته وذهبت إلى المستشفى، الذي لا يبعد عن مكان سكني، ولكننا فوجئنا بأن الحضانات مشغولة ولا توجد حضانة لطفلي المريض”، ومضت حميدة في سرد قصة طفلها المؤسفة، وأخبروها بأن تذهب إلى مستشفى الشيخ البدري، وهو مستشفى تعليمي يتبع لجامعة خاصة، ويبعد عن وسط المدينة عدة كيلومترات، ولم يكن مع حميدة ثمن أجرة سيارة الإسعاف. حملت طفلها في المواصلات العامة، متجهة إلى مستشفى الشيخ البدري، لكنه فارق الحياة قبل أن تصل إلى وجهتها، وعادت به جثة هامدة مستغلة المواصلات العامة، وقالت: “بسبب الحضانة لم أستطع إنقاذ حياة طفلي”.
(6) حضانات
عدد الحضانات بمستشفى بربر (6) فقط لا غير، كانت الحضانات تخدم المرضى من سكان البلد قبل الحرب بصعوبة، وبعد الحرب ونزوح أعداد كبيرة من الأسر، لم يعد العدد مناسبًا لخدمة المرضى، وتُقدّر الحاجة في هذه الحالة بثلاثة أضعاف عدد الحضانات الموجودة بالمستشفى، بحسب أطباء تحدثنا إليهم. وقال المدير الطبي بمستشفى بربر إن عدد الحضانات (6)، وأخيرًا تبرع متطوعون بصيانة حضانة كانت متعطلة، فأصبح العدد (7). رغم ذلك، كان الدخول للأطفال في حاجة إلى عناية مركزة “حضانة” (179) حالة، وأضاف المدير الطبي: “المشكلة عندما يحتاج أطفال للعناية، وعددهم يزيد على عدد الحضانات في وقت واحد”، وأضاف: “الطفل يبقى عدة أيام في الحضانة، وإذا حضر طفل والحضانات مشغولة، سيواجه وضعًا حرجًا، وهذا الوضع يمكن أن ينطبق على جميع المستشفيات في المنطقة”.
«لم تجد إدارة المستشفى حلاً سوى استخدام الحضانات المتاحة داخل غرفة العناية المركزة الخاصة بالمرضى الكبار»
أطفال في عنابر الكبار
أزمة الأطفال في مستشفى بربر لا تنتهي عند النقص في عدد الحضانات، وتمتد إلى عدم وجود غرفة أو عنبر مخصص لحاضنات الأطفال، ولم تجد إدارة المستشفى حلاً سوى وضع الحاضنات المتوفرة في غرفة العناية المركزة للمرضى الكبار. قالت المتطوعة والناشطة نازك حسن لـ(استقصائي): “قمنا ومجموعة من المتطوعين بزيارة لمستشفى بربر، وتلاحظ من خلال الزيارة أن حضانات الأطفال حديثي الولادة متواجدة داخل قسم العناية المكثفة للمرضى الكبار، مما يعرض الأطفال لخطر الإصابة بالأمراض”. وتبرع ناشطون بصيانة حضانة، وصيانة عنبر حتى يُخصص للعناية المركزة للأطفال توضع فيه الحاضنات. وقالت نازك: “في إطار العمل الإنساني، تقدمنا بمقترح للمنظمات الداعمة لتوفير حضانة وخزان مياه واستراحة لأمهات الأطفال بالقرب من الحضانة، وتجاوب الداعمون مع المشروع”، وأضافت: “محلية بربر والأجهزة المختصة أبدت تعاونها مع المبادرة، خاصة وأننا كمتطوعين وافدين للمدينة كنا نسعى لوضع بصمة كرد جميل لمنطقة بربر التي احتوتنا”.
أعداد محدودة وإمكانيات معدومة
الدكتورة بهجة في مستشفى بربر أفادت بأن الحضانات لها دور حيوي في خفض وفيات الأطفال حديثي الولادة، وتساعد في تحسين صحة وتطور الأطفال، الذين يحتاجون إلى رعاية خاصة، مع ملاحظة أنه توجد فقط عدد (6) حضانات في المستشفى، قبل صيانة الحضانة الجديدة. وأوضحت أنها لا تكفي مقارنة بنسبة التردد العالية، والحوجة المستمرة. ومن المعالجات التي تتم في حال حضر أطفال ولم يجدوا الخدمة، يتم تحويلهم لمستشفيات أخرى. وبحسب دكتورة بهجة، ترفض الأسر التحويل إلى مستشفى آخر بسبب التكلفة المالية المرتفعة في المستشفيات الخاصة، وهي مصروفات لا تتوفر للأسر في وضع النزوح.
وعلمت (استقصائي) من خلال متابعتها أن رسوم الحضانة لليوم الواحد للطفل تبلغ (400) ألف جنيه، حوالي (150) دولارًا أمريكيًا. وقالت مسؤولة قسم الإحصاء بمستشفى بربر، إقبال المكي، إن هناك نسبة تردد عالية للأطفال حديثي الولادة على المستشفى، خاصة الذين يحتاجون لحضانات، وذكرت أن عدد المترددين خلال العام 2024 بلغ (119) طفلًا، وخلال العام 2025 حتى شهر أبريل تردد عدد (57) طفلًا حديثي الولادة في حوجة لحضانة على قسم الأطفال بالمستشفى. والملاحظ أن الأعداد التي ترددت على المستشفى ربما تكون قليلة أو محدودة مقارنة بحجم مدينة بربر، والنزوح الذي شهدته بعد الحرب، غير أن الإمكانيات الشحيحة جعلت نظرة إدارة مستشفى بربر إليها على أنها أعداد كبيرة.
أهمية الحاضنة: الحضانات ضغط على الأطباء
طبيب يعمل بقسم الأطفال في مستشفى عطبرة، طلب حجب اسمه لكونه غير مخول بالحديث للإعلام، قال لـ(استقصائي): “ندرة حضانات الأطفال لا يعاني منها ذوو المرضى وحدهم، وهي تسبب ضغطًا شديدًا أيضًا على الأطباء”. ومضى قائلًا: “عندما يُشخص طفل أو طفل خديج ناتج عن ولادة مبكرة بحاجة للبقاء في حضانة لأيام، من الصعب استبدال ذلك بعلاج آخر، وعندما لا يجد حضانة، احتمال الموت يصبح مرجحًا جدًا”، وأشار إلى أن عددًا من الأطباء أشاروا إلى تدمير الحرب للبنية التحتية لقطاع الصحة، وهو في الأصل كان يعاني من إهمال قبل الحرب، ولم يتمكن النظام الصحي في الولايات من تحمل زيادة الطلب على الخدمات بعد تكدس المواطنين النازحين من مناطق القتال. وبحسب أطباء في مستشفى بربر، لا تقتصر المشكلة على عدم وجود حضانات فقط، فحتى الحضانات الست المتوفرة لا يوجد لها مبنى مخصص ومهيأ.
«في ظل فقر الأسر إلى جانب ضعف إمكانات المستشفيات، تصبح حياة الأطفال الخدج حديثي الولادة مهددة بخطر جسيم»
مأساة التوائم في أم روابة
كشف موقع (كردفانيون) عن حادثة وفاة طفلين توأم بمنطقة أم روابة في شمال كردفان، وبحسب ما أورده الموقع من تفاصيل، فإن سيدة وضعت أربعة توائم في مستشفى أم روابة، وبعد ساعات من ولادتهم ظهرت أعراض ضيق التنفس لدى المواليد. وأشار الموقع إلى أن ظروف حمل والدة المواليد، التي لم تحصل على رعاية طبية كافية في ظل ظروف حمل معقدة، وكذلك بسبب ارتفاع درجات الحرارة التي تجاوزت (40) درجة مئوية وقتها، أدت إلى مضاعفات صحية على المواليد. وعندما لم يجد أطباء مستشفى أم روابة حضانات لإنقاذ الأطفال، فُقد اثنان منهما بسبب مضاعفات المرض وظروف المستشفى. وحفاظًا على حياة التوأمين المتبقيين على قيد الحياة، تم تحويلهم إلى مستشفى كوستي. ووفقًا لعدد من أطباء مستشفى كوستي، تحدثوا إلى (استقصائي) وفضلوا عدم ذكر أسمائهم، أفادوا بأن حالة الطفلين التوأم الذين بقوا على قيد الحياة لا تزال حرجة، لأن الظروف في قسم الأطفال بمستشفى كوستي ليست أفضل حالًا بدرجة كبيرة عن مستشفى أم روابة، على حد قولهم، وكلفة المستشفيات الخاصة عالية، ولا قدرة لأُسَر التوائم على توفيرها، وهي (400) ألف جنيه لليوم، بحسب الأطباء في كوستي.
مستشفيات فقيرة وأُسر أكثر فقرًا
ذكرت دكتورة بهجة، وأطباء آخرون تحدثوا لـ(استقصائي)، أن أغلب الأطفال الذين يحتاجون الحاضنة تكون أمهاتهم مصابات بالأمراض المزمنة مثل الضغط والسكري، وجراء الفقر وظروف النزوح لا تخضع الأمهات للعناية الطبية والتغذية المناسبة، مما يؤثر سلبًا على صحتهن وصحة مواليدهن، ويجعلهم في حاجة للمراقبة الطبية الخاصة. وكذلك، عدم الرعاية الطبية أثناء الحمل تؤدي إلى الولادة المبكرة، وهي ولادة في سبعة شهور (36 أسبوعًا)، وهو ما يُعرف بالأطفال الخدج، ودائمًا ما يعانون من نقص الوزن، ويحتاجون إلى رعاية في حضانة لضبط درجة حرارة أجسامهم، وفي حال عدم وجود حضانة، ترتفع احتمالية الوفاة لديهم. وأشارت الدكتورة بهجة إلى نقطة بالغة الأهمية، وهي أن في حالة الولادة في المستشفى، تكون رعاية المواليد مباشرة وأكثر أمنًا، أما في حالات الولادة خارج المستشفى، عن طريق القابلات في المنزل أو الداية التقليدية، فيُحضَر الطفل إلى المستشفى وهو في حالة سيئة، وفي هذه الحالة يحتاج إلى رعاية مكثفة وفورية، ويحتاج في الغالب للبقاء في الحضانة لأيام عديدة لتجاوز مرحلة الخطر. وفي ظل فقر الأسر التي لا تستطيع توفير الرعاية للأمهات الحوامل، وفقر المستشفيات بعد الحرب في السودان، نجد أن حياة الأطفال حديثي الولادة والأطفال الخدج في خطر كبير.
أطفال يواجهون أزمة الحرب
قالت القائمة بأعمال ممثلة اليونيسف في السودان، ماري سواي: “مع استمرار النزاع، فإن حياة الأطفال ومستقبلهم معلقة في الميزان، ومن أجلهم يجب أن ينتهي العنف على الفور”. وأزمة الرعاية الصحية للأطفال حديثي الولادة، وتحديدًا شح وندرة الحضانات، أزمة مباشرة جراء حرب 15 أبريل 2023 بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، والتي تسببت في تدمير كبير للمرافق الصحية. وتسبب نزوح الأسر إلى مناطق آمنة نسبيًا في ضغط كبير على خدمات رعاية الأطفال، وبحسب المتطوعين، فإن الأوضاع الناجمة عن ندرة الحضانات سبب مباشر في وفيات الأطفال، بأعداد أكثر بكثير مما يرد في التقارير والإحصائيات الرسمية، الأمر الذي يتطلب تدخلًا عاجلًا من السلطات، ومن المجتمع المحلي والدولي، لإنقاذ حياة آلاف الأطفال حديثي الولادة في السودان.