معلومات التواصل

السودان،الخرطوم،الرياض

متواجدون على مدار الساعة

تقارير – استقصائي

في بلدٍ تنام على أزمة لتستيقظ على كارثة، يشرق صباحه على وجع، وتغرب شمسه على فاجعة، تبقى الحقيقة المُرّة: هذا ليس وطنًا بقدر ما هو ساحة تعذيب ومقبرة مفتوحة على مصراعيها. في هذا الواقع، يخرج بيانٌ ممهورٌ بتوقيع حركة العدل والمساواة، مبررًا عودة رئيسها جبريل إبراهيم لممارسة مهامه كوزير للمالية في حكومة “الأمل”، بسبب الإنجازات التي حققها في الفترة السابقة.
دع عنك فكرة أن الوزير قد نقل وزارته ومكاتبه وحاشيته وعناصر حمايته من الخرطوم التي دمرتها الحرب إلى بورتسودان.

في كراسة إنجازات وزير المالية العائد لمنصبه، يمكنك أن تكتشف أن راتب العامل في وزارة التربية والتعليم يبلغ 32 ألف جنيه، أي أقل من سعر كيلو لحم في بورتسودان، عاصمة سودان الحرب. وهي نفسها البلاد التي تواصل عملتها الانهيار بشكل متسارع وغير مسبوق. الجنيه السوداني يتآكل، شأنه شأن كل الأشياء التي تنهار في وطنٍ ظلّ الاهتمام بحياة شعبه في قاع سلم أولويات سلطة الأمر الواقع في بورتسودان. هذا إن وجد اهتمام من الأساس.

في ظل تسارع تهاوي العملة الوطنية، يقول القيادي بتحالف صمود بابكر فيصل: “بينما يتصارع أمراء الحرب على كراسي سلطة غير شرعية في بورتسودان، سعر الدولار يتخطى حاجز 2900، والدولار الجمركي يصل إلى 2400، ومؤسسات ووزارات حكومية إيرادية عاجزة عن سداد مرتبات العاملين”.
(إنه الاقتصاد، يا غبي!)، يضيف فيصل، مشيرًا إلى أن البلد يتدحرج بسرعة نحو الهاوية، وأن تشكيل لجان سيادية لإعمار العاصمة مجرد مخدّر عديم الأثر. ويختم قائلاً: “على قيادة الجيش أن تعلم أن الفتق قد اتسع على الراتق، وما عادت المناورات والتكتيكات تجدي. لا مخرج سوى بقرارات كبيرة وشجاعة”.

حسنًا، لِنغادر الآن كراسة بابكر فيصل، المصنّف معارضًا للسلطة في بورتسودان، ولنقرأ إنجازات الحكومة التي يمسك بماليتها جبريل في شوارع الخرطوم، حيث يُمسك الفقر بتلابيب الناس: موظفون، عمال، تجار، أصحاب أعمال، وباعة في الأسواق، يجتمعون عند “التكايا” في انتظار “كمشة” عدس أو فول.

المؤسف أن حتى “التكايا”، التي كانت توفر وجبة واحدة لآلاف الناس، اضطرتها الظروف الاقتصادية لإغلاق أبوابها. فمن كانوا يدعمونها في بداياتها، صاروا الآن في طوابير المنتظرين لدعمها. مع تزايد التقارير عن عجز عدد من “التكايا” عن تقديم خدماتها بسبب عدم توفر الموارد.

وبالتزامن مع الحديث عن إنجازات وزير المالية، يتوقف السودانيون عند “إنجاز” آخر، بطله هذه المرة والي الخرطوم، الذي قام بافتتاح “تكية” في أم درمان، ولم يغادر قبل أن تلتقط له الكاميرات صورًا مع “حلل” العدس. غادر بعدها مستقلاً سيارته ذات الدفع الرباعي، التي تساوي قيمتها أكثر من مئة “تكية”، وهو الذي سبق أن صرّح: “لا توجد مجاعة في الخرطوم، السلع متوفرة في الأسواق، لكن المطحونين من الشعب لا يمتلكون الأموال التي تمكنهم من شرائها”.

بإمكانك أن تجد إنجازًا آخر لحكومة تفصلها عن خدمة الشعب مسافة أضعاف تلك التي تفصل بورتسودان عن الخرطوم. الإنجاز هذه المرة في كسلا: افتتاح “مطب صناعي” على أحد الشوارع، نُقلت تفاصيله على “فيسبوك” وسط سخرية حادة، وكأن السودانيين باتوا مؤمنين بنظرية “شرّ البلية ما يضحك”.

إنجازات حكومة جبريل السابقة، أو تلك التي عاد بسببها إلى كرسيه، يخبرك بها “صاحب حافلة” عاد بعد مشقة إلى الخرطوم وبدأ العمل، لكن جبايات الحكومة لم تتركه، إذ فرضت عليه شرطة المرور دفع “تسوية مخالفة” بـ 50 ألف جنيه، في ظل أزمة ركاب و”فَردة”، ولم يُحصّل من الرحلة سوى 3 جنيهات! فلم يجد ما يختم به الفيديو سوى السؤال: “من أين لي بحق الفطور؟”.

الأزمة لا تتجلى فقط في الجبايات، بل في وجود سلطة شرهة تموّل نفسها من جيوب المواطنين الخاوية، وسط غياب قيم الشفافية في تحصيل هذه الأموال التي تذهب لجيوب أفراد، لا لمؤسسات الدولة. ومع غياب المؤسسات وسلطة القانون، فإن “مجد البندقية” لا يجلب الوزارات فقط، بل يجلب لمن يحملونها أموالًا تُحصّل من أصحاب العربات، ومن البضائع في الشوارع أو حتى في المكاتب التي تتخذ الصفة الرسمية: “ضرائب، جمارك، زكاة، طرق، مرور سريع، وأمن اقتصادي”.
ولا يكاد يمر يوم دون شكوى من تاجر حول ابتزاز السلطات الحكومية، ومطالب ممثليها بأموال باهظة للعبور أو منح التصاديق.

يمكنك أن تقرأ إنجازات العائد إلى وزارته ظافرًا في قائمة أسعار السلع التموينية بسوق مدينة “كادقلي”، حيث وصل سعر كيلو السكر إلى 25 ألف جنيه، وكيلو البصل إلى 5 آلاف، فيما يتحدث أهل مدينة “سنجة” عن إنجاز آخر: خلو الأسواق تمامًا من سلعة السكر، في خطوة عدّها البعض احتجاجًا من التجار على سلوكيات الجهات الرسمية في فرض الضرائب والأتاوات.

في ولاية الجزيرة، يبدو أن أكبر إنجازات الحكومة هو غيابها عن مسرح الأحداث، وبالطبع عن الخدمات. فقد عاد الناس إلى مناطقهم بعد أن هجّرتهم الحرب، وقاموا بتوصيل المياه، وشراء مستلزمات إعادة التيار الكهربائي، وتشكيل فرق للحماية، وإعادة ترميم المدارس. بل كتبوا على جدرانها: “حاكمانا في شنو؟ حكومة ما خابرا لينا شي!”
وطبعًا، لا إجابة على سؤال الشعب، إلا تلك المعلومة من الواقع بالضرورة: “حاكماكم سلطة الأمر الواقع بمجد البندقية”، وهو الإنجاز الذي حافظ عليه جبريل، وعاد بموجبه إلى كرسي الوزارة مرة أخرى.

Share:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *