تجلي الذات، حب الآخر، الحرية، الاستغراق والتواجد مع الأغاني، وإطالة الشعر أبرز القواسم المشتركة بين الراستا والدرويش
في شهر مارس 2019 وجد عمر محجوب نفسه وسط مجموعة من المعتقلين في أحد سجون جهاز أمن البشير، كان التعذيب والإهانة يسيطران على المكان الضيق واللاهب.
ويحكي عمر أن أحد جنود جهاز الأمن ألقى أمام قدميه سيجارة مشتعلة، وأمره بالزحف ليقترب منها، زحف عمر مجبراً، لكن بعد أن وصل إليها ومد يده، سرعان ما سحق الجندي يد عمر بحذائه العسكري الثقيل وقال له : اليد النجسة دي تستاهل القطع لأنها ضفرت شعرك الطويل دا.
يقول عمر إنه تعرض لإهانات وضرب وتعذيب أكثر من كل المعتقلين، فقط لأنه صاحب ضفائر.
وعملية القبض عليه تمت بعد محاصرة ومطاردة في شوارع أمدرمان، كانت هي المرة الأولى التي يتم فيها اعتقاله، الذي استمر لثلاثة أيام، في وقت أفرج فيه عن كل الذين تم اعتقالهم في نفس الموكب بعد ساعات، لكن ضفائر شعره، هي التي جعلته عرضة للتعذيب، واستمرار الاعتقال وكشف له عن ذلك أحد جنود جهاز الأمن والمخابرات، ورغم الإهانة والتعذيب أطلق سراحه دون أن يتعرض لقص شعره عكس ما كان يتخيل.
-
صورة قاتمة
بعد أيام قليلة من انقلاب 25 أكتوبر عادت الصورة القاتمة التي تركها النظام المباد عند السودانيين وبالنسبة لعمر فإن الأنظمة الديكتاتورية لا تجيد إلا لغة العصا، والتي تعمق حالات الاحتقان، وتبعاً لذلك يرتفع منسوب الغضب ضدها.
-
حملات واسعة
ونفذت قوات الانقلاب حملات واسعة لحلاقة رؤوس الشباب بطريقة وصفت بالمهينة، وتستهدف الحملة أصحاب الضفائر المسدلة، ويستخدم جنود الانقلاب في عمليات الحلاقة أدوات غير معقمة ومهددة للصحة كـ(السونكي والمدى والسكاكين).
ووفقاً لبيانات منسوبة إلى لجان مقاومة الخرطوم فإن إصابات عديدة وقعت وسط الشباب بسبب الطريقة التي تتم بها الحلاقة، ويقول من تعرضوا لها إن قوات الانقلاب كانت تتباهي بإذلال الشباب، وما أن تنتهي عملية الحلاقة حتى تسمع صيحاتهم، كأنما هناك انتصار تحقق بعد معركة حربية شرسة.
-
هوية
بالنسبة للمصور الفوتغرافي ومنتج البرامج وضاح عمر فقد أطلق العنان لشعر رأسه قبل ستة أعوام، يقول إنه قرأ كثيرا حول حركة الحقوق المدنية، خاصة المرتبطة بإفريقيا، ويؤكد وضاح على أن أكثر القضايا التي شغلت الساحة الثقافية في السودان هي قضية الهوية، ولوضاح أبطال في حياته أبرزهم بوب مارلي، والفوبلاندي، وهم من ساهموا في خلق وعيه بالانتماء الإفريقي، ويرى أن ضفائر شعره الطويل، حاول من خلالها التمرد على الثقافة العربية التي حاول نظام الإخوان المسلمين فرضها على السودانيين. وإن إطلاق الحرية لشعره فيها تأكيد على هويته الإفريقية.
ويشير وضاح إلى أن استهداف الشباب وملاحقتهم والتنكيل بهم يندرج ضمن محاولات السلطة الانقلابية لوضع حد للضغط الشعبي الممارس ضدها، لكنه يبقى – الضغط الشعبي- نقطة الدم التي تسري في شريان الحراك الثوري الضامن للإبقاء على جذوة الثورة مشتعلة حتى تحقيق الأهداف كاملة، ليظل الشارع بكل فئاته الثورية- أصحاب ضفائر أو غيرهم الخيار الأول والأخير للغاضبين، والسوط الأكثر وجعًا لظهور الجنرالات، وعليه فإن الساحة الآن مفتوحة على كافة الاحتمالات خاصة بعد فشل السلطات الحاكمة في التعاطي مع الكثير من الملفات الاقتصادية والمعيشية.
-
رأي عام
في مارس الماضي تعرض ثلاثة لاعبين من نادي الخرطوم الوطني – حينها كان ضمن أندية الدوري الممتاز وسبق أن مثل السودان في المحافل الإفريقية- تعرض الثلاثي للاعتقال والضرب وقص الشعر وحاولوا تعريف القوات الانقلابية بهويتهم، إلا أن كل محاولاتهم فشلت، وسرعان ما تناقلت وسائل الإعلام الخبر وأصبح قضية رأي عام.
وقضى الثلاثي ساعات طويلة داخل مقرات الشرطة، بعد أن صودرت هواتفهم ومنعوا من التواصل بمعارفهم.
ومؤخراً بدأت تظهر تأثيرات الراستا داخل الملاعب السودانية، وأبرزهم لاعبا الهلال العاصمي والفريق القومي محمد عبدالرحمن وفارس عبدالله، وفي نادي المريخ تجد السماني الصاوي وعمار طيفور، وقد أبدى عدد منهم تعاطفه ومساندته لثورة ديسمبر، خلال الاحتفال بإحراز الأهداف.
أما لاعب المريخ السابق عصام جوليت والمنتمي لحركة الراستا في السودان، يرى أن حلاقة رؤوس الشباب غض النظر عن الدوافع التي خلفها وفي هذا التوقيت أثارت الشارعين السياسي والشعبي، ويشير الى أن استهداف الثوار يفترض أنه بديهي في بلد منكوب بسبب الانقلاب.
-
رصد
ما أن تشعر الجماعات الانقلابية بالقلق حتى تتكرر مشاهد العنف وترتفع معدلات الانتهاكات والأكثر قلقا لدى المواطن هو ارتفاع معدلات الجريمة ، السلطات الانقلابية تتناسى وعن عمد الاستحقاق الأمني والاقتصادي ، وتبدو الإحصاءات الأخيرة منذرة بما هو أسوأ، فقد سبق وأن أعلنت هيئة محامي دارفور عن رصدها للحملة المنظمة والممنهجة التي تنفذها القوات الهجين التابعة للقوات المسلحة والشرطة الأمنية والاحتياطي المركزي، فهي كما ذكرت الهيئة تعتدي بالضرب وقص شعر الشباب قسراً، وقالت إن الحملة المقصود منها كسر عزيمة الشباب عبر الانتهاكات الجسيمة، وانها تمثل انتهاكات جسيمة، وكشفت الهيئة عن توثيقها لحالات نهب أثناء عمليات قص الشعر، ولفتت إلى أن السلطات الانقلابية، تحاول إعادة ممارسات النظام المباد مرة أخرى.
-
الانقلاب داخل غرفة الإنعاش
وصل عضو جماعة الراستا في السودان خالد النور- رسام- إلى قناعة تامة بأن الصورة الشائعة والنمطية التي كان ينظر بها المجتمع السوداني، للراستا تغيرت بالكامل، يقول النور إن السودانيين أظهروا تقديراً لافتاً لموكب الراستات، مشيراً إلى الإعلان عنه وانضمام عدد كبير من الثوار إليه، وظهرت حالات من الاحتفاء به في أوساط مختلفة، ما يعني عند خالد أن الثورة السودانية تجاربها تتسع وعوالمها أرحب.
بعد استشهاد عبدالله عباس ” الروسي” ومحمد ماجد ” بيبو” وحسام آدم ،قررت جماعة الراستا تسيير موكب، رفعوا خلاله شعار(موكب حب، تعافي ومقاومة) إلى جانب شعارات أخرى أبرزها ” الراستا لا يموت” وهو شعار مماثل لشعار الثورة السودانية، خلال جميع المواكب” شهداءنا ما ماتوا ”
في الموكب الذي انطلق من ميدان الربيع – أمدرمان- 10 يناير هذا العام، ارتفعت أغنيات الريقي الثورية وكان الموكب وفقاً للنور، ثوريا ولافتا، وعد النور الانتهاكات التي تمارسها السلطات الانقلابية ستجعلها ضحية، وأنها ستدخل غرفة الإنعاش بعد أن أعادت عقارب الساعة إلى فترة العهد المباد.
-
الراستافاري والدروايش
المؤكد أن جذور حركة الراستا تعود إلى الجامايكيين، وتكونت في العام 1930، ويعد ماركوس غارفي قائدها، لكن لا أحد يجزم بتاريخها في السودان، فهناك من رجح أنها وفدت بعد وفاة مغني الريغي الشهير بوب مارلي في العام 1981 نظم محبوه سرادق عزاء في منطقة الديم – الخرطوم- ويشير محمد المأمون عضو مجموعة الراستا إلى أن بعد وفاة بوب مارلي تخلقت فكرة تكوين المجموعة.
يقول المأمون إن ثورة ديسمبر لفتت انتباه السودانيين إلى مجموعة الراستا، ولفت إلى أن في اعتصام القيادة كان لهم ركن شهير، هذا إلى جانب المواكب التي شاركوا فيها، كما قدمت المجموعة شهداء كثيرين.
وقطع المأمون بأن الراستافاري السودانيين، ليسوا أتباعا للديانة التي أسسها ماركوس غارفي، إنما هم جماعة غارقة في محبة الأغاني الثورية، كما أنهم محبون للسلام والحرية، وهي أبرز ما تنادي به الراستافاري، وأوضح المأمون أن إطالة الشعر عندهم عنوان بارز بأنهم أحرار في اختيار نمط حياتهم.
-
الكمال الروحي
فناء الأجساد في سبيل الوصول إلى الكمال الروحي، هما أبرز ما يميز الراستافاري والدروايش، هذا ماقاله الباحث الاجتماعي إبراهيم ميرغني والذي يرى أن تقارباً بين الطرفين، فكلاهما تجلياته هي التي خلقت منه شخصاً محبا للآخر.
ويشير ميرغني إلى أن إطالة الدراويش والراستافاري للشعر أصبح جزءا من شخصيتهم وملمحا يدل على هويتهم.
ولفت إلى أن كلاهما شديد الاحتفاء بالغناء والإنشاد فطقس الغناء والرقص الذي يصل إلى مرحلة الذوبان يميز الدروايش والراستافاري، وألمح إلى أن كثيرا من المبدعين السودانيين ارتبطوا ارتباطا وثيقاً بالتصوف وبحركة الراستافاري .
وتابع: كلاهما مسالم ومحب وزاهد ويتجلى ذلك في تعامله مع الآخر
-
نهاية وشيكة
ويرى القيادي بالحزب الناصري منذر أبوالمعالي أن استهداف الشباب ومطاردة أصحاب الشعر المسدل يزيد حالة الاحتقان الشعبي ضد السلطات الحاكمة ويجعلها تتصاعد، وقال إن منسوب الغضب ارتفع، ما ينبئ بموجة ثورة جديدة في القريب العاجل، ويؤكد أبو المعالي أن السودانيين دائما لديهم ترجيحات صائبة، والراجح هو أن نهاية الانقلاب اقتربت.
استقصائي / مصعب محمد علي