تقول الطرفة إن جماعة من العمال والحرفيين وأصحاب المهن، استأجروا سكنا مشتركا، وكان أحدهم يعمل في أكثر الحرف هامشية، متعلقة بالخدمة في المنازل. وفي مرة من المرات، حصل هذا العامل على بطة وحيدة، هي جزء من أجره اليومي، فحمل بطته وعاد بها إلى السكن الجماعي.
فرح رفاقه واندهشوا لوجود البطة بينهم، لكن فرحتهم لم تدم طويلا، بسبب الإزعاج والتلف الذي أحدثته حركتها في البيت؛ فقال أكبرهم سنا لصاحبها: لدينا الكثير من العبارات والكلمات والأصوات التي نقولها لكبح جماح حيوانات المنزل، مثل الكلاب والدجاج والأبقار والحُمر والقطط! فهل لك أن تخبرنا ما الذي نقوله لبطة مزعجة ومتلافة؟
قال صاحب البطة، بكل أسف، إنه لا يعرف بالضبط ما الذي يقال للبط! فجاءه الرد سريعا: “إذاً، عليك أن تُخرج هذه البطة التي لا نعرف كيف نهشها أو نُسكتها”.
قد تبدو الطرفة أعلاه مماثلة للحالة السياسية السودانية التي بنيت، سابقا ولاحقا، على مقولة خطابية، مفادها إبعاد الأحزاب من إدارة الفترة الانتقالية، لصالح “كفاءات وتكنوقراط مستقلين”. حدث ذلك أخيرا، وأيضا في الشهور التي تلت ثورات 1964، 1985.
فإذا كانت الشعوب لديها الوسائل التي تعاقب بها الأحزاب السياسية المخطئة؛ فإنها صفر اليدين حيال أخطاء الكفاءات. وأي احتمالات لنجاحاتهم المنتظرة قد يحجب عن الناس السرد القوي المتمثل في أن وجود الأحزاب السياسية هو الضامن القوي للحصول على مستوى دائم من الحرية والحيوية السياسية.
في الواقع، وخلال السنوات الثلاثين الماضية، غابت عن السودان التقاليد التي تفصل بين الحزب الحاكم والدولة. وفي هذا الوضع، كان من الطبيعي أن يغنم الإسلاميون، أعضاء التنظيم الحاكم، الدولة كمكافأة، ويحصلون بها على سيطرة كاملة على الحياة العامة، مما حدا بالثورة أن تجترح وسيلة فعالة لإعادة الأمور إلى نصابها بتفكيك الهيكل الإداري ونظام المحسوبية الذي تم تصميمه لديمومة حكم الجبهة الإسلامية وعمر البشير، هي (لجنة إزالة التمكين وتفكيك نظام الثلاثين من يونيو واسترداد الأموال العامة).
هذا الوضع الشاذ لغنيمة جهاز الدولة ومواردها، دفع الأحزاب، عقب نجاح الثورة الأولي، إلى التعفف من المناصب العامة، وبالتالي، الابتعاد عن تحمل مسؤوليتها في إدارة عملية الانتقال. وعلى سبيل المثال، قبلت الأحزاب في أغسطس 2019 أن تُضمن مقولة “الكفاءات” في وثيقة الدستور الانتقالي (انقلب عليها الجيش في 25 أكتوبر)، رغم المفاوضات الطويلة التي جرت بين قوى الحرية والتغيير والمجلس العسكري، لتصبح الكفاءات المستقلة نصا دستوريا ملزما، وخلقت بذلك وضعية “خاطئة” كما يقول أحد الباحثين السياسيين، وقلّ مثيلها في البلدان التي شهدت انتقالات ناجحة من أنظمة شمولية مماثلة، سواء في أوروبا الشرقية أو أفريقيا؛ حيث كانت الأحزاب السياسية هي اللاعب الأساسي على مدار التجارب الانتقالية.
وإذا كانت الأحزاب قد فطنت لهذا الخطأ لاحقا (مع حكومة عبد الله حمدوك الثانية)، إلا أن محاولة تدارك الخطأ جعلتها أكثر عزلة من أي وقت مضى، وبات من السهل التشكيك في نواياها، ومطلوب منها، في كل مناسبة سياسية، أن تتبرأ من رغبتها في الحكم الانتقالي لصالح الكفاءات المحايدة و”المستقلة سياسيا”.
لكن، من أين هبط مشروع الإعلاء من مكانة (الكفاءات المستقلة) لإدارة الدولة، وكيف وصل إلى الأحزاب لتتبناه؟
عادة ما تكون المهمة الأولى والعسيرة بعد قيام الثورة، هي اتخاذ القرار بشأن تشكيل مستويات وسلطات الحكم الانتقالي وعناصره، وعن الجهة صاحبة الشرعية لاتخاذ هذا القرار. وفي الحالات التي لا يمكن، أو يفضل، فيها إجراء انتخابات بشكل فوري، مثل السودان، يصبح من السهل التشكيك في شرعية الجميع، والميل بشكل قوي للقول بأن التفويض الانتخابي أكثر شرعية من التفويض الثوري. ما يعني الاتفاق المبطن على حالة من التراخي وعدم الجدية في دعم الأحزاب السياسية والنقابات للقيام بدورها في إدارة البلاد.
في الماضي، كان غياب الرؤية المشتركة بين الأحزاب والقوى السياسية سببا في فشل عمليات الانتقال السياسي، وعادة ما تكون أطراف النخب السياسية غارقة في التنافس والانقسامات الايديولوجية والسياسية الراسخة، وبالنتيجة، يُضعف التنافس على السلطة من وحدة وقوة الأطراف المدنية مقابل قوة الجيش والدولة العميقة.
نظراً لانعدام الثقة المتبادل بينها، تعين الأحزاب السياسية، بصورة مشتركة حكومات انتقالية تكنوقراطية “محايدة”. وفي نهاية المطاف، تخفق حكومات االتكنوقراط الانتقالية “لافتقادها للنفوذ السياسي” الذي يعينها على تلبية متطلبات مصالح الجماعات المتعددة، ولا يهم ما إذا كانت متعاونة مع القوى السياسية.
يشير الباحث الطيب أحمد الطيب، إلى خطأ الخلط بين الوظيفة السياسية، من جهة، والوظيفة التقنية التي يحصل عليها المرء بالتخصص في علم معين، من الجهة الأخرى، ويلمح إلى ظهور حالة الاحتفاء بالتعليم النظامي في السودان مع بزوغ شمس كلية غردون التذكارية (1902)، بوصف التعليم حالة من الحياد التقني والأكاديمي، ومن جامعة الخرطوم نفسها برزت، لاحقا، نواة لتنظيم المحايدين (أواخر الثمانينيات). ويقول إن إلزام المحايدين المنحدرين من مؤسسات أكاديمية بلعب أدوار سياسية، يسيطر عادة على مناطق الاستقطاب المذهبي والديني والاجتماعي.
وفي السودان، لا يثير الاستغراب أن يستغل الانقلابيون كل سانحة لتضخيم الانقسامات والصراعات بين الأحزاب، أو صناعة أسباب الانقسامات نفسها في أحايين كثيرة، بما في ذلك الانقسامات الاجتماعية والمذهبية.. لكن هذا لا يمنع الأحزاب أن تمضي بقوة نحو مسؤوليتها.
تحليل/ يوسف حمد