ولاة… بشرعية “الأونلاين”
تقارير -استقصائي
من منفاه الاختياري أو من مكتبه “الافتراضي”، يصرّح فارس النور، المُعيَّن حاكمًا للخرطوم عبر منصة “تأسيس”، قائلاً: “في إطار عهد جديد يتأسس على قيم العدالة والمواطنة المتساوية واحترام كرامة الإنسان، وتحت القيادة الحكيمة للفريق محمد حمدان دقلو، سيكون أول قراراتي بعد استلامي الرسمي لمهامي هو تخصيص قطعة أرض لكنيسة الخمسينية، وإعادة بنائها بالكامل على نفقة حكومة الإقليم”.
فارس، الذي يبعد آلاف الأميال عن الخرطوم، يعد أهلها بقرع جرس كنيسة دُمِّرت خلال حربٍ كان أحد أطرافها.
ولعل من المفارقة أن استلام فارس لمنصبه مرهون بإجراءات تسليم وتسلم مع “إبراهيم بقال”، الذي سبق وأعلن نفسه حاكمًا للخرطوم من “قنقر”. بقال، الهائم الآن على وجهه في نيالا، التي تُدار عسكريًا من بورتسودان عبر حاكم عيّنته السلطة هناك.
في بلد يتهاوى بين التشظي والانقسام، أعلن الدكتور علاء الدين نقد، الناطق باسم تحالف “تأسيس”، تشكيل حكومة جديدة في سودان الحرب، في ظل استمرار مشروع البحث عن “شرعية” داخل بلاد تتحكم فيها شريعة الغاب، والموت، والقتل، والتدمير الممنهج.
المفارقة الأكبر أن الحكومة التي يتزعمها قادة مليشيات وأصحاب جيوش أُطلق عليها “حكومة السلام”، لتقابل رمزيًا “حكومة الأمل” التي تقودها المؤسسة العسكرية. وهكذا، ينقلب من بيده السلطة في الشرق بتحالفه مع من يملكها في الغرب، على حلم شعبٍ طالب بالحرية والسلام والعدالة.
وفي سياق هذا السعي المحموم وراء الشرعية، دشّن طرفا الحرب ما يمكن تسميته بـ”حكومة ولاة أونلاين”، حيث أعلنت “تأسيس” عن تعيين ولاة لأقاليم السودان المختلفة: الأوسط، الشمالي، النيل الأزرق، شرق السودان، وكردفان، في محاكاة مثل سوداني قديم: “حبال بلا بقر”.
ولم يكن المشهد في بورتسودان مختلفًا. فمصطفى طمبور، المقيم بين بورتسودان وكسلا، هو والي ولاية وسط دارفور، التي يعلنها عبد الواحد نور منطقة كوارث. أما مناوي، فبعدما كان يمارس سلطته كحاكم لدارفور من المهندسين، نقل مقره إلى بورتسودان، قبل أن يحل محله الهادي إدريس بأمر مباشر من “حميدتي”.
وسط نيران الحرب المشتعلة، وصراع الشرعيات، وسلطة قائمة على البنادق، تتزايد الدعوات الانفصالية وتتراجع فكرة الدولة الواحدة الجامعة، ليجد السودانيون أنفسهم أمام واقع “حكومتين” تتقاسمان الوطن.
ورغم أن علاء نقد نفى أن تكون الخطوة إعلانًا عن دولة جديدة، مؤكدًا أنها مجرد “حكومة اضطرار”، فإن ما يحدث على الأرض هو سلطة عسكرية في مناطق الجيش، وسلطة أخرى في مناطق تسيطر عليها قوات الدعم السريع وقوات الحركة الشعبية بقيادة عبد العزيز الحلو.
تحالف “تأسيس” سمّى محمد حمدان دقلو رئيسًا لمجلسه الرئاسي، والحلو نائبًا له، وعين حكامًا لأقاليم لا يملكون فيها أي سيطرة فعلية، مكرّرًا ذات تجربة بورتسودان في تعيين ولاة على مناطق يسيطر عليها الخصم.
وهكذا تتجلى المفارقة: حكومتان في بلد واحد، كلتاهما تحمل شعارات زاهية، لكن على أرض الواقع، لا سلام أُعيد، ولا أمل تحقق.
ويحتفي إبراهيم الميرغني، القيادي في “تأسيس”، بتعيين مبروك مبارك سليم حاكمًا لإقليم شرق السودان، رغم أن الأخير لن يطأ أرض الشرق ما لم ينفصل عن تحالفه مع “حميدتي” وينضم لسلطة البرهان، إذ أن جميع مناطق الشرق الآن تحت سيطرة الجيش.
وفي مشهد موازٍ، يسخر “التأسيسيون” من مناوي الذي يحكم دارفور من بورتسودان، ويطالبونه بالحصول على تأشيرة لدخول إقليمه.
في سودان العبث بالجغرافيا والتاريخ وحياة البشر، تبدو الحكومة الجديدة وكأنها إجابة ساخرة على سؤال “فيسبوك”: ما الذي يخطر في بالك؟ ثم يكتب صاحبها “نجحنا”، ويشعر بالاسترخاء بعد أن أصبح وزيرًا في سلطة افتراضية لا تملك من الواقع شيئًا.
في هذه السلطة الافتراضية، تلتقي نيالا ببورتسودان، يلتقي غرب الحرب بشرق الألم، ويتساوى التعايشي المقيم في فنادق الخارج مع “كامل” المقيم في فندق ببورتسودان. مع ولاة “أونلاين”، تلتقي الحكومة “الموازية” مع “العالم الموازي”، وكلها مجرد مظاهر ذكاء اصطناعي لا وجود لها في الواقع.
لا حكومة “السلام” أعادت الأمن لشعب شردته الحرب، ولا حكومة “الأمل” قادرة على بثّ الأمل من جديد.
لا جديد في “تأسيس”، سوى أن مناوي لم يعد وحده الحاكم الافتراضي، فقد انضم إليه آخرون يحملون نفس اللقب، “الحاكم”، وهي صفة لا تتجاوز كونها وصفًا بلا محتوى، لا مكان لها في واقع شعبٍ يغرق في الموت، المجاعة، الحصار، والتشريد، مرددًا نشيده الأبدي:
“لا شرعية لدعاة التقسيم، فهم مجرد حكام أسافير.”