معلومات التواصل

السودان،الخرطوم،الرياض

متواجدون على مدار الساعة

نغوغي وا ثيونغو…حطم القيد ومضى 

استقصائي – المحرر الثقافي

إن كان الزعيم الجنوب أفريقي نيلسون مانديلا، رمزا للمقاومة السياسية في القارة الأفريقية والعالم، كذلك الأديب الكيني نغوغي واثينغو، هو رمز المقاومة الثقافية في أفريقيا والعالم، ويكفي أن نغوغي نذر أدبه وحياته لمقاومة المستعمر وتحرير أبناء شعبه من سطوته وعصاه، ثم نذر أدبه وحياته لمقاومة نخبة ما بعد المستعمر، من أبناء بلده وتحرير كينيا والقارة الأفريقية من عبوديتهم الجديدة وفسادهم وجشعهم وتحمل جراء ذلك السجن والعيش في المنفى طوال حياته.

 

المقاومة تبدأ من هنا

ولد الأديب العظيم قي 5/ يناير من عام 1938 في بلدة ليمورو في كينيا، أطلق عليه أبوه أسم جايمس، اسم كنسي بات متداولا في أفريقيا منذ أن هبط المستعمر الأنجليزي البلدان الأفريقية، لذا عندما تفتق وعيه، وبدأ في مقاومة المستعمر، كان اسمه أول أدوات المقاومة المتاحة، فبدله إلى اسم جدته و القبيلة وأصبح “نغوغي” بدلا عن جايمس، ليس الاسم وحده، حتى دينه خضع للتبديل، ففي مرحلة من مراحل حياته تخلى عن المسيحية التي في تقدره أحد الأدوات التي أستخدمها الأوروبي في إخضاع قومه وأصبح اشتراكيا معايا للإمبريالية والهيمنة الرأسمالية، على الرغم من أنه تعلم في مدارس الإرساليات التبشيرية، ثم في جامعة “ماكيريري” في كمبالا، ليس هذا وحسب سنرى لاحقا كيف تخلى نغوغي عن الكتابة بالغة الانجليزية التي درس وتعلم بها لأنها ليس لغة أهله وعاد يكتب بلغة “الكيكويو” اللغة الأصيلة في كينيا وكان عندما يسأل عن تغيير اسمه يقول ” المقاومة تبدأ من هنا من أكثر الأشياء التصاقا بك”.

 

ثورة ” الماو ماو”

“لا تبك يا طفلي” ((Weep Not, Child كانت هي الرواية الأولى التي التفت بعدها الجميع للروائي نغوغي وخاصة بعد أن حصلت على جائزة مهرجان دكار للفنون السوداء في 1966، وكانت تحكي عن ثورة “الماو ماو” التي انظلقت في شوارع المدن ضد المستعمر، و كان الأديب العظيم أحد ثوارها، الرواية كانت “أدب مقاومة” من طراز رفيع، كل شخصية من شخصياتها تجسد مجتمع من مجتمعات كينيا في ذلك الوقت، لم تترك حتى تفاصيل صراع الثوار مع آبائهم الخانعين للمستعمر الذي يرون فيه منقذ تكبد المشاق من أروبا البعيدة، للتبشير بالمسيحية والحضارة، وانتقدت المتماهين مع المستعمر من رجال الدين وكبار التجار، واختصرت بأسلوب أدبي بديع الصراع الطبقي والاجتماعي والاقتصادي الذي كان المستعمر لا يريد أن ينظر أليه من قصوره العاليا وحياته المرفهة على حساب عرق المستعبدين من أصحاب الأرض، منذ “لا تبكي يا طفلي” أنتبه الجميع إلى أن نغوغي لا يكتب من أجل الكتابة أو ليضع اسمه ضمن قائمة الروائيين أو لمجرد الحكاية، بل لخلخلة الأسطورة الاستعمارية، التي جعلت من اللغة الإنجليزية أداة للهيمنة، ومن ادعاء التفوق الحضاري أداة للإخضاع، وحين كتب “حفنة من القمح” و”النهر الفاصل”، كانت وخذة في ضميره الثوري تقلقه، كيف يكتب لاهله بلغة المستعمر التي هيمن بها على وعيهم؟ وكيف يروي بالكلمات ذاتها التي دجّنت ذاكرة قارئه الأفريقي؟ إلى أن وقعت الحادثة التي دفعته للاقلاع عن استخدام لغة المستعمرين.

“اتزوج حين أريد”

لحظة المقاطعة تقترب في عام 1977، اعتُقل نغوغي إثر مشاركته في عرض مسرحي شعبي بلغة الكيكويو، عنوانه “سأتزوج حين أريد”، مسرحية أزعجت السلطة لأنها استدعت جمهورها الحقيقي من القرى والحقول، ومن بين الجمهور نساء كادحات جئن من مكان العمل ومن البيوت مع اطفال معفرين بالتراب وتحدثت بلسان هؤلاء، لا بلغة الدولة ومسرح النخبة في المدينة.

وفي زنزانته، كتب نغوغي روايته “شيطان على الصليب” على أوراق المرحاض، لكنه كتبها بالكيكويو، لا بالإنجليزية، وكانت انتباهة باهرة، وخرج وهو مؤمنا ومبشرا بأن اللغة ليست مجرد وسيلة، بل هي ميدان الصراع ذاته. ومنذ ذلك الحين، لم يعد نغوغي إلى الكتابة بلغة الإمبراطورية الاستعمارية، بل كرّس حياته لاستعادة الكينونة اللغوية والثقافية للشعوب الأفريقية مشيرا إلى أن حربهم ضد ذاكرتنا وذاكرتنا تموت عندما تغيب لغتنا.

 

ما بعد الاستعمار “مأدبة الشيطان”

جاءت رواية “شيطان الصليب”، التي صدرت في 1980، حادة النقد لطبقة ما بعد الاستعمار، ورثة السلطة من الحاكم الانجليزي، غير أنه استخدم فيها أسلوبا ساخرا لاذعا، للتعبير عن فساد مناضلي معركة التحرر وهي شبيه برواية مزرعة الحيوان الشهيرة للكاتب جورج أويل، في تقليدهم للرجل الإنجليزي نفسه، وفي أحد فصولها ” مأدبة الشيطان” رسوم صورة لانحلال المناضلين القدامى الغارقين في اللهو والملذات وكيف يدمر الانحراف واللامبالاة والجهل والطمع وقصر النظر، وسبقت رواية ” شيطان الصليب” رواية “بتلات الدم” التي وجهها لنظام دانيال أرب موي والسلطة الحاكمة، وهي رواية ثورية بامتياز طرح فيها قضية فساد السلطة وانحرافها دون مواربة، وجرت عليه اعتقال طويل، قم لم يعد مرغوبا في وجوده، وتم تهديده بالاغتيال، ليغادر إلى بريطانيا ثم إلى الولايات المتحدة ليعمل في جامعاتها محاضر عن الأدب الأفريقي ويكتب ويؤلف بلغة ” الكيكويو”.

تحطيم القيد

لم يكتف وا ثينغو بكتابة الرواية والأدب، وفي ذات طريق التنوير والتوعية، عكف على الكتابة الفكرية، وفي هذا المضمار ذاع صيت كتابه “تحطيم القيد: نحو تحول ثقافي” (Decolonizing the Mind, 1986) الذي أعاد فيه أطروحته حول نبذ لغة المستعمر وعدم الغرق في حاضرته الثقافية والانبهار بها، ودعا إلى الاتكاء على اللغة الأصيلة، باعتبار أن لغة للاستعمار في حد ذاتها استعمار للعقل وتغييب لأرث الأمة الأفريقية العظيم ، ورجع إلى تاريخ العبودية في أفريقيا لتأكيد ما فعله الأوربيون بالأمة الأفريقية وتناول في “شيء ممزق وجديد: النهضة الأفريقية” (Something Torn and New: An African Renaissance , 2009) تأثير تجارة الرقيق على الحضارة الأفريقية وهوية الأفارقة، مناديا بالعودة للجذور والتمسك بالتاريخ المتوارث عبر الحكاية الشعبية، وفي الأساطير الأفريقية، قائلا إن “استعمار أفريقيا بدأ بسرقة الأرض، ثم سرقة الذاكرة عبر اللغة”.

أما مؤلفه “حركة الأطراف” (Moving the Centre, 1993) والذي رسم فيه ملامح ثورة ثقافية تهدف إلى تحرر ثقافي من تركه المستعمر والمثقف التماهي معه على حد سواء، وانتقد بشدة السير الأعمى خلف التفوق الثقافي والحضاري الأوروبي، وأن كل شيء يبدأ من هيغل وكانط وينتهي بنقد نظريتهم و رصفائهم الأوروبيين.

ولم يكف نغوغي عن ملاحقة الحكام الافارقة الفاسدين ففي كتابه “الكتاب في السياسة” (Writers in Politics, 1981) حرض من يمارسون الكتابة من مثقفين وصحفيين فضح فساد النخب الحاكمة وعدها مسئولية أخلاقية على عاتق كل مثقف أفريقي.

رحل بلا قيد

في صبيحة 28 – مايو -2025 رحل أديبا ومفكرا أفريقيا عظيما، رحل نغوغي وا ثيونغو بعد أن تمكن بعقله المستنير وبصيرته الثاقبة أن يرى التحرر في مناهضة الظلم، وأن يتخلص من كل قيود الهيمنة الاستعمارية ومخاوف السلطة المستبدة، رحل بعد أن أثمرت بذوره الفكرية حركة فكرية ناضجة وفتية تؤرق اليوم الحكام والمستعمرين معا وترسم الطريق بتأني نحو خلاص الشعوب المستضعفة.

 

 

Share:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *