مراكز اعتقال تتحول إلى مقابر صامتة في الجزيرة
تقرير مرصد الجزيرة لحقوق الإنسان يكشف انتهاكات ممنهجة من مختلف الأطراف
تقارير – استقصائي
منذ اندلاع الحرب في السودان، تحولت ولاية الجزيرة إلى واحدة من أكثر البقاع مأساوية في ملف حقوق الإنسان. فبين الجدران الضيقة والزنازين المظلمة، تتكشف جرائم اعتقال وتعذيب وقتل، توثقها تقارير مرصد الجزيرة لحقوق الإنسان، لترسم صورة قاتمة عن واقع آلاف المعتقلين في الولاية.
انتهاكات متعددة الأطراف
أوضح التقرير، الصادر في 15 سبتمبر 2025، أن مراكز الاعتقال انتشرت في محليات المناقل، ود مدني، الحصاحيصا، ورفاعة شرق الجزيرة، وشهدت انتهاكات واسعة من قبل جهات أمنية وعسكرية متعددة، بينها الخلية الأمنية، الاستخبارات العسكرية، القوات المشتركة، قوات درع السودان، ومجموعة “البراؤون”.
ويأتي هذا التقرير استكمالًا لعمل المرصد الذي سبق أن وثق، في ديسمبر الماضي، الجرائم الجسيمة التي ارتكبتها قوات الدعم السريع ضد المدنيين، من قتل خارج القانون واعتقالات ونهب واعتداءات جنسية واستهداف مباشر للكوادر الطبية والإغاثية. التقرير الجديد يؤكد أن الانتهاكات لم تقتصر على طرف واحد، بل طالتها أيدي أطراف متعددة في النزاع، ما يكشف عن نمط منهجي من القمع بعيدًا عن أي محاسبة.
ظروف احتجاز غير إنسانية
رصد التقرير وقائع صادمة في مراكز الاحتجاز، بينها التعذيب الوحشي والمعاملة المهينة. ففي معتقل مصنع سور بالحصاحيصا، تم توثيق احتجاز أكثر من 230 شخصًا، بينهم نساء وأطفال، دون أي فصل بينهم وبين البالغين، في انتهاك صارخ لحقوق الطفل.
أما في رفاعة، فقد حُشر أكثر من 70 معتقلًا في غرفة لا تتجاوز مساحتها 6×8 أمتار، حيث تعرضوا للتجويع والضرب المستمر. وفي المناقل، تحولت مراكز الاعتقال إلى ساحات لتصفية الجسدية، مع تخصيص مقابر سرية لدفن ضحايا التعذيب والإهمال الصحي.
ود مدني.. بؤرة القمع الأكبر
أكد التقرير أن مدينة ود مدني كانت الأكثر تضررًا، حيث تجاوزت حالات الاعتقال فيها ثلاثة آلاف، معظمهم من النشطاء السياسيين وأعضاء لجان المقاومة ومتطوعي غرف الطوارئ، إضافة إلى اعتقالات ذات طابع إثني.
من بين هؤلاء، أُحيل 950 ملفًا إلى المحاكم، وصدر بحقهم أحكام قاسية وصلت إلى السجن المؤبد والإعدام. كما جرت محاكمة ما لا يقل عن 150 امرأة بتهم ملفقة تتعلق بـ”التعاون”، في حين وثقت أكثر من 160 حالة انتُزعت فيها اعترافات قسرية تحت التعذيب.
فساد ممنهج واتجار بالحرية
لفت التقرير إلى أن الفساد أصبح جزءًا من منظومة القمع داخل مراكز الاعتقال، حيث يُفرج عن بعض المعتقلين مقابل مبالغ مالية باهظة. وأوضح أن أسر المعتقلين تضطر لدفع ما لا يقل عن خمسة ملايين جنيه سوداني للحصول على “شهادة انتساب” صورية لقوات درع السودان تُستخدم أمام المحكمة، فيما تصل المبالغ المطلوبة للإفراج من مقار الخلية الأمنية إلى ثمانية ملايين جنيه على الأقل.
حالات فردية تكشف حجم المأساة
أورد التقرير قصصًا مؤلمة تجسد حجم الانتهاكات، أبرزها مقتل المواطن خالد حسن عوض الجيد (ود الليبي) من قرية أم مرحي، الذي اعتُقل في المناقل قبل رمضان 2024 دون توجيه تهمة. بعد عيد الفطر، تلقت أسرته نبأ وفاته دون تقرير طبي أو تفسير رسمي، وسط مؤشرات على أنه قضى تحت التعذيب أو نتيجة إهمال طبي متعمد.
كما كشف التقرير عن اعتقال الكاتب والمؤرخ والإذاعي المعروف خالد بحيري (70 عامًا) في يناير 2025 من منزله بود مدني بواسطة جهاز المخابرات العامة، واحتجازه سرًا ثلاثة أشهر قبل نقله إلى سجون سيئة السمعة. وقد تدهورت حالته الصحية بشكل خطير نتيجة الحرمان من العلاج، في استمرار لنمط استهداف النشطاء والمستقلين من جميع الأطراف.
جرائم ضد الإنسانية تستدعي تحركًا عاجلًا
خلص التقرير إلى أن ما يجري في ولاية الجزيرة يمثل انتهاكات جسيمة للقانون الدولي الإنساني وحقوق الإنسان، تصل إلى مستوى الجرائم ضد الإنسانية.
وطالب المرصد بالإفراج الفوري عن جميع المعتقلين تعسفيًا، وفتح تحقيقات مستقلة لمحاسبة المسؤولين عن جرائم التعذيب والقتل والإخفاء القسري، وضمان الدعم القانوني والطبي للمحتجزين، وحماية المدنيين من الانتهاكات الممنهجة.
“استمرار هذه الممارسات يعكس خطرًا متصاعدًا للإفلات من العقاب، ويهدد بتكريس واقع مظلم في السودان ما لم يتم التحرك العاجل على المستويين المحلي والدولي.”