من لاهاي إلى بورتسودان: حين تنفجر السياسة في وجه الجغرافيا والمواطن هو الضحية
لم يكن قرار محكمة العدل الدولية برفض دعوى السودان ضد الإمارات نهاية معركة قانونية فحسب، بل بداية تصعيد سياسي مفتوح، تجلت ملامحه سريعًا في إعلان الخرطوم الإمارات “دولة عدوان”، وقطع العلاقات الدبلوماسية معها. وفي مشهد تتصاعد فيه الضربات الجوية على مدينة بورتسودان، العاصمة المؤقتة للحكومة السودانية، يتكشف عمق المأساة: حرب بلا أفق، خصوم يرفضون التفاوض، وشعب يُسحق بين ركام الصراع.
عدالة غائبة وواقع مشتعل
قرار المحكمة، القائم على أسباب إجرائية تتعلق بتحفظ الإمارات على المادة التاسعة من اتفاقية منع الإبادة الجماعية، لم يبرئها، لكنه أعفاها من المساءلة. وبالنسبة للحكومة السودانية، لم يكن ذلك مجرد فشل قضائي، بل دليلًا إضافيًا على ضعف النظام الدولي في حماية الضحايا وردع المتورطين في الفظائع.
الميدان لا يعترف بالمجاملات
في ظل هذه الإخفاقات القانونية، تحولت الجبهات العسكرية إلى ساحة الرسائل الحقيقية. ضربات دقيقة لمواقع حيوية في بورتسودان، ترجمتها حكومة بورتسودان على الفور كرسالة من الإمارات، عبر وكيلها المحلي — قوات الدعم السريع. لم يعد هناك مجال للرمزية أو التحفظ: السودان يرى أن الحرب باتت دولية الأبعاد، تديرها قوى من وراء الحدود.
القطيعة مع أبوظبي… قرار استراتيجي أم مقامرة؟
رد حكومة بورتسودان بقطع العلاقات مع الإمارات لم يكن خطوة رمزية، بل تعبير عن وصول العلاقة إلى نقطة اللاعودة. لكنها خطوة محفوفة بالمخاطر، وسط عزلة سياسية متزايدة، وانهيار اقتصادي متسارع. ورغم الدعم الشعبي الواسع لموقف الحكومة في الداخل، فإنها بحاجة إلى تحالفات دولية جديدة، وإستراتيجية تضمن ألا تنقلب القطيعة إلى حصار.
في خضم التصعيد… من يحمي المواطن؟
لكن وسط كل هذا التصعيد، يبقى السؤال المؤلم: أين المواطن السوداني من هذه الحسابات؟ فمع كل ضربة على بورتسودان، ومع كل اشتباك في دارفور أو الخرطوم، تُزهق أرواح بريئة، وتُهدم بيوت آمنة، ويُدفع آلاف إلى النزوح والتشرد. وبينما ترفض الأطراف المتصارعة العودة إلى طاولة التفاوض، يعلو صوت الدم على أي نداء للسلام، ويغيب الأمل في أفق الحل السياسي.
أزمة وطن لا قضية نزاع فقط
ما يجري اليوم في السودان ليس مجرد خلاف دبلوماسي، ولا حتى حرب نفوذ بين دولتين. إنها أزمة وجود لوطن يبحث عن خلاصه وسط ركام الصراع. وإذا استمرت الحرب دون تفاوض، فإن الخاسر الأكبر لن يكون طرفًا في السلطة أو الميدان، بل المواطن السوداني البسيط، الذي يواجه الموت كل يوم، في ظل عالم يتفرج، وقوى كبرى تزن مصالحها بميزان الصفقات لا المبادئ.