أسهمت مصادقة السلطات عقب انقلاب 25 أكتوبر 2021 باستيراد كميات ضخمة من “الزئبق” وصلت إلى أكثر من أربعة أضعاف المستورد من المادة خلال عام 2020، في حدوث كارثة بيئية تهدد حياة 5 ملايين معدن يمثلون نسبة تقدر بـ13% من سكان البلاد.
وكشفت دراسة أكاديمية حديثة، وصفت التعدين في السودان باللعنة، أن أكواما ملوثة بالزئبق من مخلفات التعدين الأهلي تصل إلى ملايين الأطنان جرفتها السيول التي غمرت 25 قرية شمال مدينة عطبرة بولاية نهر النيل، مما نتجت عنه أكبر كارثة بيئية وصحية تهدد المجتمعات المحلية في مناطق التعدين بالسودان.
وفيما اتهمت الدراسة الدولة ممثلة في كل من شركة سودامين، والشركة السودانية للموارد المعدنية، بالتقاعس عن دورهما في تطبيق إجراءات السلامة، المرتبط باعتماد سياسات التقليل من استخدام الزئبق تدريجيا وصولا إلى منعه لمخاطره، واستخدام بدائل له صديقة للبيئة، إلا أن الشركتين لم تردان على الدراسة حتى إعداد هذا التقرير.
وطبقا للدراسة، فإن “سودامين”، التي تحتكر استيراد “الزئبق” سمحت لشركات خاصة باستيراد المادة باسمها بموجب عقودات من الباطن، وكشفت وقائع إحدى المحاكمات عن أحد الأمثلة.
وتقول الدراسة إن الحكومة السودانية فشلت في إحكام السيطرة على عمليات استيراد ونقل وتخزين واستخدام الزئبق والتخلص منه بسبب فشلها في ممارسة الرقابة وفرض الحد الأدنى من معايير حماية صحة مواطنيها وسلامة البيئة، مع ما يترتب على ذلك من عواقب مأساوية على الإنسان والبيئة على حد سواء.
وبحسب الدراسة، فإن فشل الحكومة في ممار سة الرقابة نتج عن تضارب المصالح داخل الهياكل والهيئات الحكومية، ولم تحقق المبادرات الدولية الرامية إلى تعزيز بدائل استخدام الزئبق في قطاع تعدين الذهب الحرفي والصغير بهدف الحد من المخاطر الصحية والبيئية زخما مستداما، ومنها تلك المبادرة التي قادتها منظمة الأمم المتحدة للتنمية الصناعية (يونيدو) في ولاية النيل الأزرق في عام 2007 . ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى غياب متابعة وزارة المعادن للترويج للتقنيات التي جربت ضمن المشروع.
وأشارت الدراسة إلى أن الحكومات المتعاقبة تقاعست عن القيام بالأدوار المطلوبة منها لإلزام أصحاب الشركات الخاصة المستوردة لهذه المواد بتطبيق احتياطات السلامة الصناعية والمهنية المفروض اتباعها في التعامل مع هذه المواد . وفشلت هذه الحكومات أيضا في توعية المواطنين باتخاذ التحوطات الضرورية لتجنب جلب الأذى لأنفسهم ولأسرهم . لقد وقع ضرر كثير حتى الآن، من الضروري تداركه، وتصحيح كل الممارسات التي أدت إلى تعريض المواطنين لهذه السموم .
قدر البنك الدولي استهلاك الزئبق في السودان في فترة الثماني سنوات بين 2008 و2015 بنحو 346 طنا، وخلال نفس الفترة استورد السودان 336 طنا من الزئبق.
وفي حين طابقت واردات السودان المعلنة رسميا تقريبا تقدير البنك الدولي بواقع 36 طنا سنويا في الفترة من 2014 إلى 2020 توصلت مصادر أخرى إلى تقديرات أعلى لاستخدام الزئبق. واستنادا إلى الملاحظة المباشرة لدورة إنتاج التعدين الحرفي والصغير في العبيدية ومناطق التعدين الأخرى، قدرت الدراسة، نسبة الزئبق المستخدمة مقابل الذهب بـ10 ـ12: 1 جرام مما يشير إلى استخدام ما يصل إلى 626 طنا سنويا محسوبة على أساس مقادير إنتاج السودان المعلنة، وربما تأتي الفجوة بين الواردات الرسمية وهذا الرقم من التهريب والواردات غير المصرح بها من البلدان التي لا تعلن عن صادراتها من الزئبق إلى قاعدة بيانات الأمم المتحدة (كومتريد) .
حددت إحصاءات التجارة العالمية لواردات وصادرات الزئبق التي سجلتها قاعدة بيانات الأمم المتحدة (كومتريد) السودان بوصفه أكبر مستورد للزئبق في أفريقيا جنوب الصحراء ، حيث استورد 38% من جميع واردات المنطقة خلال الفترة من 2010 إلى 2015.
وبدأت حمى الذهب في السودان حوالي 2008 ـ2009 ، وشهد إنتاج الذهب المعلن في البلاد زيادة حادة من 10 أطنان عام 2008 إلى 32 طنا بحلول عام 2010 ، ثم وصل إلى ذروة بلغت 107.3 أطنان بحلول عام 2017. وحسب إحصائيات وزارة المعادن جاء 80% من إنتاج الذهب في السودان ، خلال فترة النمو المشار إليها ، من قطاع التعدين الحرفي الصغير الذي يستخدم الزئبق لاستخراج الذهب من خلال الغربلة والملغمة (تفاعل الزئبق والذهب).
أدت الإجراءات المتعلقة بالتسهيلات التجارية الأخيرة التي اتخذتها سودامين وتحديدا منح تراخيص لشركات استيراد خاصة لاستيراد الزئبق باسمها إلى زيادة مقلقة في كميات الزئبق التي تدخل السودان بشكل قانوني . في واقع الأمر تظهر السجلات الرسمية التي فُحصت لأغراض إعداد هذه الورقة أن السلطات صدّقت بين النصف الثاني من عام 2021 وعام 2022 باستيراد كمية من الزئبق تجاوزت الـ4000 طن، أي ما يقرب من 450 % من حجم التجارة الدولية الرسمية في الزئبق لعام 2020 المقدرة بـ 891 طنا ، أي أربعة أضعاف ونصف حجم هذه التجارة الدولية.
يستطيع العاملون في التعدين الحرفي والصغير استخراج ما يقرب من 30% من الذهب من الخام الذي يقومون بمعالجته بالزئبق ويخلفون وراءهم ما يقدر بـ 5 إلى 10 ملايين طن من النفايات (تسمى المخلفات “الكرتة”) تشكل أكواما في العراء تحتوي على نسبة عالية من الزئبق، شجعت وزارة المعادن السودانية على تطوير شركات معالجة المخلفات لاستخراج الـ70% المتبقية من الذهب من هذه المخلفات باستخدام السيانيد، لكن الضوابط المفروضة على استخدام السيانيد وما ينتج عن المعالجة باستخدامه، بما في ذلك سيانيد الزئبق وهو أكثر سمية من المادتين الأخريين، فضفاضة أو غير موجودة.
يعكس تقاعس السودان عن المصادقة على معاهدة ميناماتا، وهي اتفاقية عالمية تهدف إلى التصدي للآثار السلبية للزئبق، غياب الإرادة السياسية للحكومات المتعاقبة عن مواجهة مسؤولياتها تجاه سلامة وصحة الإنسان والبيئة، كما أن ضعف القوانين والسياسات الرقابية، واحتكار الدولة لاستيراد الزئبق والملوثات البيئية الأخرى المستخدمة في عمليات التعدين يجعلها شريكة في هذه الانتهاكات.
يتطلب التصدي للوضع الحالي أن تتخذ السلطات السودانية والمجتمع الدولي حزمة من الإجراءات، ويجب أن تبدأ هذه الإجراءات بتقليص استخدام الزئبق واعتماد بدائل له صديقة للبيئة بما في ذلك من خلال التوعية، ووضع الضوابط، وتقليل استخدامه وصولا إلى منعه منعا نهائيا، كذلك يجب أن يصادق السودان على معاهدة ميناماتا، وهو ما يتطلب جهدا متضافرا للضغط على الحكومة السودانية لتبني سياسات وطنية متكاملة وإشراك أصحاب المصلحة للتصدي للكارثة البيئية الناتجة عن استخدام الزئبق في التعدين.
يذكر أن التعدين ينتشر في 15 ولاية من ولايات السودان الـ18 ، وتعتبر ولايات نهر النيل، والشمالية، البحر الأحمر، غرب كردفان أعلى الولايات إنتاجا للذهب في السودان.
وينشر (استقصائي) الدراسة كاملة ..
لعنة الذهب في السودان …. كيف يسمم الزئبق أمة