معلومات التواصل

السودان،الخرطوم،الرياض

متواجدون على مدار الساعة

اعتقالات القضارف تكشف الخط الأحمر لحكومة بورتسودان

تقرير – مصعب محمد علي

لم تكن المداهمات والاعتقالات التي شهدتها مدينة القضارف عقب صدور بيان سياسي مؤيد لمذكرتي تصنيف الحركة الإسلامية والمؤتمر الوطني حدثا عارضا يمكن عزله عن سياقه بل جاءت بوصفها مؤشرا كاشفا لحساسية سياسية بالغة ما زالت تحيط بهذا الملف ولحدود غير معلنة ترسم المجال المسموح للفعل المدني في لحظة شديدة الاضطراب فحين يواجه بيان سلمي بالقوة لا بالرد السياسي يفرض السؤال نفسه حول ما الذي يجعل مجرد موقف مدني يستدعي هذا القدر من التوجس؟ ويكشف في الوقت ذاته عن طبيعة الخوف الكامن من مضمون الفكرة لا من شكلها

اللافت في ما جرى لا يقتصر على تنفيذ المداهمات بل يمتد إلى الصمت الرسمي الذي أعقبها إذ لم تصدر أي جهة أمنية بيانا يوضح الجهة المنفذة أو الأساس القانوني للإجراءات وهو صمت يفتح باب التساؤل حول ما إذا كان الأمر يتعلق بإهمال إداري أم بخيار سياسي مقصود يهدف إلى إبقاء الفعل داخل منطقة رمادية تمرر فيها الرسائل دون تحمل مسؤوليتها الكاملة ؟
هذا الغموض لا يمكن فصله عن حساسية الموضوع نفسه ويعزز فرضية أن ما حدث لم يكن إجراء أمنيا روتينيا بل استجابة سياسية غير معلنة لخطاب اعتبر متجاوزا لخطوط لا يراد الاقتراب منها

وتبرز هنا مسألة جوهرية تتعلق بسبب هذا التحسس العميق من المطالبة بتصنيف الحركة الإسلامية والمؤتمر الوطني فهذه المطالبة لا تنطلق من موقف أيديولوجي مضاد فحسب بل تلامس جوهر الأزمة وتعيد فتح أسئلة مؤجلة حول المسؤولية التاريخية والسياسية عن تفكيك الدولة وعن تحويل مؤسساتها إلى أدوات حزبية وعن بناء شبكات نفوذ ظلت فاعلة حتى بعد سقوط النظام السابق
فهل تكمن الخطورة في الفكرة نفسها أم في ما قد تفضي إليه من مسارات قانونية وسياسية تعيد ترتيب موازين القوة؟

إن الخشية من هذا المسار تعود في جانب كبير منها إلى ما يترتب عليه من تفكيك لشبكات ممتدة داخل أجهزة الدولة بما في ذلك المؤسسات العسكرية والأمنية حيث لم تكن العلاقة بين الحركة الإسلامية وهذه المؤسسات علاقة اختراق عابر بل اندماجا تراكم عبر عقود وأنتج بنية هجينة يصعب فيها الفصل بين ما هو مهني وما هو أيديولوجي وهنا يطرح سؤال آخر حول ما إذا كانت هذه البنية ما زالت فاعلة حتى اليوم؟ والإجابة تبدو حاضرة في طريقة إدارة الأزمات وفي سرعة استدعاء أدوات الردع حين يتعلق الأمر بملفات تمس هذا الإرث

وقد تجلت هذه البنية بوضوح في لحظات الأزمات الكبرى حين جرى استدعاء الخطاب التعبوي وإعادة تدوير تشكيلات مسلحة أو شبه مسلحة جرى توظيفها لحماية مشروع سياسي بعينه تحت لافتات مختلفة ومن هنا فإن الحديث عن الأذرع العسكرية للحركة الإسلامية لا ينتمي إلى باب الاتهام المجرد بل إلى قراءة تاريخية لمسار تشكل القوة في السودان منذ التسعينيات حين أعيد تعريف العنف بوصفه أداة مشروعة للدفاع عن السلطة وتم تأسيس تشكيلات رديفة رسمية وغير رسمية ظلت تعمل وفق منطق الولاء التنظيمي لا وفق مقتضيات الدولة ومع اندلاع الحرب الأخيرة عادت آثار هذا الإرث إلى السطح ليس فقط عبر السلاح بل عبر الخطابات والاحاديث التي حاولت منح القتال معنى أيديولوجيا يتجاوز منطق الصراع العسكري

في هذا السياق يصبح استهداف ناشطين مدنيين وأعضاء لجان مقاومة وقيادات حزبية عقب بيان سياسي أمرا ذا دلالة عميقة إذ يطرح سؤالا حول طبيعة العلاقة بين السلطة والفعل المدني وهل ما زال ينظر إلى هذا الفعل بوصفه شريكا في البحث عن مخرج أم تهديدا يجب احتواؤه بالقوة؟ كما يكشف هذا السلوك عن عجز كامل في مواجهة الأسئلة الكبرى بالحوار والمساءلة واللجوء بدلا من ذلك إلى أدوات القمع التقليدية التي لم تنتج تاريخيا سوى مزيد من الانسداد

وتكشف تجربة القضارف في هذا المعنى عن مأزق أوسع يواجه أي محاولة لإعادة بناء المجال السياسي على أسس جديدة إذ لا يمكن الحديث عن سلام مستدام أو انتقال مدني حقيقي في ظل بقاء ملفات بعينها خارج النقاش أو اعتبارها محرمة سياسيا فالدولة التي لا تملك الشجاعة لتفكيك إرثها الثقيل تظل أسيرة له مهما تغيرت الوجوه وتبدلت الشعارات وهنا يبرز سؤال أخير حول ما إذا كان تأجيل هذه المواجهة يخدم الاستقرار أم يراكم أسباب الانفجار المؤجل؟

وعليه فإن المطالبة بتصنيف الحركة الإسلامية والمؤتمر الوطني لا ينبغي النظر إليها كفعل انتقامي أو محاولة لإقصاء سياسي بل كخطوة تأسيسية لإعادة ترتيب العلاقة بين السياسة والدولة وبين السلاح والمجتمع على نحو يمنع إعادة إنتاج الأزمة في صور جديدة فالتجربة السودانية بما راكمته من مآس وانكسارات تؤكد أن تجاهل الجذور لا يفضي إلا إلى تدوير الكارثة

وما جرى في القضارف ليس سوى تنبيه مبكر إلى أن معركة السودان المقبلة لن تكون محصورة في وقف القتال بل ستتصل بتعريف المسؤولية وتسمية الفاعلين وتحديد ما إذا كانت البلاد قادرة على مواجهة تاريخها بشجاعة أم أنها ستظل تهرب من الأسئلة الكبرى إلى فعل أمني يعيد إنتاج الخوف بدل أن يفتح أفق الخلاص

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *