السودان المختطَف: كيف نستعيد الدولة دون أن نُعيد أدوات القمع؟
في ظل الحرب الدامية والانهيار المؤسسي في السودان، يطرح القيادي في تحالف “صمود” وعضو مجلس السيادة الانتقالي السابق، محمد الفكي سليمان، رؤية نقدية جريئة حول سُبل استعادة الدولة دون إعادة أدوات القمع، ويقدم مرافعة سياسية وأخلاقية لتأسيس مشروع وطني جامع ينطلق من وقف الحرب ومواجهة تحالف الفساد والعنف.
في هذا الحوار الحصري الصريح مع استقصائي ، يتناول الفكي مأزق قوى الثورة، ومعضلة الهوية، وإمكانيات بناء مشروع وطني جامع، مؤكدًا أن تحالف الفساد والعنف هو من جرّ البلاد إلى هذا الدمار، وأن كسر هذا التحالف يبدأ بالشجاعة في تسمية الأشياء بأسمائها.
- السودان المخطوف… كيف نعيده دون أن نُعيد أدوات القمع؟
- وقف الحرب، كسر تحالف الفساد، وإعادة بناء الدولة على أسس عادلة.
- الحرب ليست قَدَرًا… بل نتيجة لتحالف الفساد مع عنف السلطة
في ظل الحرب المستعرة والانهيار المؤسسي، يتساءل السودانيون عن سُبل استعادة الدولة دون إعادة إنتاج أدوات القمع التي أطاحت بها ثورتهم. القيادي في تحالف “صمود”، محمد الفكي سليمان، يرى أن وقف الحرب يمثل الخطوة الأولى نحو مسار سياسي جديد، يفتح النقاش حول القضايا المؤجّلة والجروح الطازجة التي خلفها الصراع.
أجرى الحوار: مصعب محمد علي – استقصائي
كيف يمكننا، نحن السودانيين، استعادة الدولة المختطَفة دون إعادة إنتاج أدوات القمع التي ثرنا ضدها؟
الدولة الآن على المحك؛ فقد تحللت معظم ممسكاتها السياسية والاجتماعية نتيجة سنوات طويلة من القمع، واختراق المنظومة الأمنية للمجتمع المدني، والأهلي، والأحزاب السياسية.
ثورة ديسمبر كانت علامة مضيئة وفرصة لترميم أجهزة الدولة التي حطمها التمكين والاستبعاد السياسي والإثني. لكن انقلاب 25 أكتوبر 2021، وكان انقلابًا عجولًا وغبيًا، لم يُحسن حتى قراءة المهددات الأمنية الداخلية، وسرعان ما تفككت المنظومة الأمنية نفسها وتقاتلت فيما بينها، ثم أدخلتنا في هذا النفق المظلم.
الخطوة الأولى هي إيقاف الحرب، وفتح مسار سياسي شامل لطرح عشرات القضايا المؤجّلة، وأخرى أفرزتها هذه الحرب المزلزلة. وطبعًا لا يمكن الإحاطة بكل هذه القضايا في هذه العُجالة.
ما السبيل إلى بناء مشروع وطني جامع يتجاوز الانقسامات الإثنية والجهوية ويُعيد تعريف الهوية السودانية على أساس المواطنة والكرامة؟
لا يمكن بناء مشروع وطني ما لم يكن هناك اعتراف بأن هذه الرقعة الجغرافية التي تجمعنا تسكنها شعوب شديدة التنوع، لها كامل الحق والطموح في المشاركة في صياغة هذا الوطن ليصبح ملكًا لنا جميعًا.
ولن يتحقق ذلك إلا عبر مشروع ديمقراطي، وتمثيل عادل في كافة أجهزة الدولة، وعلى رأسها المؤسسة الأمنية، التي ظلت حتى الآن حصنًا مظلمًا لا تتوفر معلومات دقيقة حول تركيبته الاجتماعية.
تفاقم الأمر عندما تحولت أجهزة الدولة إلى أدوات عنف تحمل هوية سياسية واضحة وانحيازًا لمشروع إقصائي، وهو ما يظهر جليًا في خطابها عند مواجهة “الآخر”.
المشروع الوطني يبدأ بطرح الأسئلة “المحرّمة”، من الهوية إلى تقاسم السلطة والموارد، مرورًا بتركيبة الأجهزة الأمنية وضرورة حيادها.
هل تستطيع قوى الثورة أن تنتقل من الاحتجاج إلى التأسيس، ومن الشارع إلى المؤسسات، دون التفريط في جذوة الوعي الثوري؟
قوى الثورة اليوم أمام امتحان حقيقي، وهي بعيدة عن مصدر قوتها الأساسي، أي الجماهير والحراك المدني. تواجه واقعًا معقدًا؛ فالحرب أدواتها مختلفة، والصوت الغالب فيها هو صوت البندقية.
لكن رغم ذلك، يظل مطلوبًا منها الكثير، خصوصًا في ملف السلم الأهلي، حتى لا تنحدر البلاد من قتال سياسي مسلح إلى حرب أهلية شاملة.
كما أن عليها بذل جهد سياسي ودبلوماسي لدفع المتقاتلين إلى طاولة التفاوض. وقبل ذلك، هناك واجب إنساني ضاغط لا يحتمل التأجيل، يتعلق باللاجئين والنازحين والاحتياجات الإنسانية العاجلة.
كيف نحول الذاكرة الجماعية للحرب والمجاعات والانتهاكات إلى قوة سياسية وأخلاقية تدفع نحو عدالة انتقالية حقيقية لا تسويات فوقية؟
تجارب الحروب موجودة في كل العالم؛ هناك شعوب نهضت من وسط الرماد بدروس جديدة وملهمة، وذاكرة حية، وطموح نحو حياة أفضل. وهناك شعوب تبددت وأصبحت جزءًا من كتب التاريخ كأممٍ آفلة.
واجب القيادة في هذه اللحظة التاريخية أن تكون ثابتة، تنظر إلى المستقبل وتبشّر به. فالقائد هو من يرى بعيدًا، ويظل ثابت الجنان في لحظات المحن، ولديه القدرة على مواصلة الطريق.
السودان يمتلك ما يؤهله للنهوض، من موارد بشرية وطبيعية هائلة. فقط علينا أن ننظر إلى ما يحدث الآن كدرس قاسٍ من دروس التاريخ، لا يجب أن يتكرر.
ما هو شكل الاقتصاد الممكن في سودان ما بعد الحرب؟ وكيف نكسر الحلقة الجهنمية بين الفقر والفساد والنخب المسلحة؟
الاقتصاد يواجه أسئلة كبرى. الحرب دمّرت البنية التحتية الصناعية، من طرق وجسور ومحطات كهرباء. وكان لدينا أصلًا عجز مريع في قطاع الطاقة، والآن تضاعف الوضع تعقيدًا.
لكن كل ذلك يظل ثانويًا مقارنة بما حدث من نهب منظم لموارد البلاد خلال الحرب، وتغوّل شبكات الفساد التي نمت وترعرعت وأصبحت صاحبة مصلحة مباشرة في استمرار الحرب.
لقد توحشت هذه الشبكات، وبدأت تمنح الحرب غطاءً دينيًا تارة، ودستوريًا تارة أخرى، بينما الحقيقة أنهم مجرد لصوص يريدون استمرار غياب الرقابة المؤسسية والشعبية.
عقب الحرب، من الضروري تفكيك مركزية الاقتصاد، وإعادة بناء البنية التحتية، خصوصًا في قطاعي الطاقة والنقل، ومحاربة الفساد بشكل جذري. أما بقية القطاعات، فستنهض بجهد السودانيين وموارد بلادهم.
كيف تتصدى القوى المدنية لهيمنة الخطابات العسكرية والدينية المتطرفة على الفضاء العام، وتفتح الطريق أمام خطاب مدني إنساني ينهض بالبلاد؟
الخطابات العسكرية، وكذلك الدينية الإقصائية، تنمو وتزدهر في لحظات الشمولية والاضطراب. وهي خطابات لا تخاف إلا من النور والمواجهة.
الخطاب العسكري يحب الحرب؛ فهي ملعبه، وأدواتها كلها بيده، وتصبح الحياة بأسرها ملحقة بالمعركة: الإعلام يصفّق، الفن يُمجّد، والشعب يُهتف باسمه. أما من يسأل “لماذا نموت؟”، فمكانه محجوز في دفتر الخونة.
وقف الحرب، واستعادة الحياة المدنية، والحريات، وفتح الفضاء العام للنقاش الحر، هو الخطوة الأولى لهزيمة هذه الخطابات.
هل تمتلك القوى السياسية الشجاعة لتسمية الأشياء بأسمائها، ومخاطبة جذور الحرب وكشف أسبابها الحقيقية؟
الحرب في السودان لم تكن قَدَرًا، بل نتيجة مباشرة لانقسام قوى المصلحة في الوحدة والاستقرار، مقابل توحّد تحالف عنف السلطة والفساد.
وهو تحالف شرس ودموي، لا يتردد في استخدام أقصى درجات البطش إذا ما اقترب أحد من مصالحه. وأثبتت الأيام أنه لا مانع لديهم من إحراق البلاد كاملة إذا طالب الشعب بأن تكون بلاده له.
نعم، نحتاج إلى شجاعة نواجه بها جذور الحرب، ونسمي ونكشف أسبابها الحقيقية، فهي الخطوة الأولى في طريق تفكيك الأزمة الدائمة، ورسم طريق الخلاص.