معلومات التواصل

السودان،الخرطوم،الرياض

متواجدون على مدار الساعة

ساتي الراقص: الذي منحنا درسٌ خارج المنهج

تقرير – استقصائي
بشجاعة تُشبه شجاعة جيله، الجيل الذي هتف يومًا في مواجهة ترسانة النظام المخلوع: «نحن الجيل الراكب راس، ما بحكمنا رئيس رقّاص»، خرج الطالب ساتي في مقطع مصوّر معلنًا اعتذارًا صريحًا وقويًا إلى الشعب السوداني، وإلى مدرسته، ومعلمه، وأسرته، عقب انتشار فيديو سابق ظهر فيه وهو يرقص ويتمايل داخل الفصل الدراسي أمام معلمه.

جاء اعتذار ساتي بمثابة رد أخلاقي على موجة الجدل التي أثارها الفيديو الأول، والذي عُدّه كثيرون سلوكًا غير لائق، يمس هيبة المعلم ويخالف القيم التربوية والانضباط المدرسي، ويعكس – في نظرهم – خللًا في التربية واحترام المؤسسة التعليمية. غير أن ساتي أوضح، في اعتذاره، أن تصرفه لم يكن بقصد الإساءة، وأن الواقعة حدثت في نهاية الحصة الدراسية، في سياق علاقة يسودها الاحترام والألفة بين الطلاب ومعلميهم بعد انتهاء الدروس.

وأشاد الطالب بمعلمه، واصفًا إياه بأنه من خيرة المعلمين، مؤكدًا أن ما جرى لا يعكس حقيقة العلاقة القائمة بينهم. كما أشار إلى أن الفيديو صُوِّر بغرض تداوله داخل مجموعة مغلقة خاصة بطلاب المدرسة، قبل أن يفاجأ بانتشاره الواسع خارج هذا الإطار، وما ترتب عليه من هجوم وانتقادات حادة.

وفي خضم ذلك، اتخذت إدارة المدرسة قرارًا بفصل الطالب، وهو قرار وصفه ساتي بالعادل، مؤكدًا تقبّله له، واعترافه باستحقاقه لما ترتب على سلوكه.

ورغم إجماع كثيرين على رفض التصرف ذاته والمطالبة بإجراءات رادعة تحول دون تكراره، فإن شجاعة الاعتذار التي أظهرها الطالب الصغير لامست وجدان عدد كبير من الناس، وأعادت فتح النقاش حول قيمة الاعتذار بوصفها فضيلة أخلاقية غائبة في المشهد العام، لا سيما في التعامل مع الأخطاء والسلوكيات.

في هذا السياق، وجّه الكاتب الصادق سمل رسالة مؤثرة إلى ساتي، اعتبر فيها الاعتذار والاعتراف بالخطأ قيمة عالية وشجاعة نادرة، وإرثًا أخلاقيًا لم تنجح الأجيال السابقة – التي يحاكم بعض أفرادها هذا الفتى اليوم – في ترسيخه. وأشار إلى أن غياب هذه الفضيلة كان أحد أسباب ما آل إليه الوطن من دمار، مؤكدًا أن سلوك ساتي ليس سوى جزء من تراكم أخطاء صنعها الكبار، لكنه وُضع في الواجهة.

وأضاف سمل، بصفته أحد “آباء هذا الوطن”، أن جيله لم يكن ملائكيًا، وأنهم ارتكبوا أخطاء كثيرة في أعمار مشابهة، لكنها لم تُوثق ولم تنتشر كما يحدث اليوم، لأن الفضاء الإعلامي لم يكن مفتوحًا بهذا الشكل. وختم رسالته بدعوة صادقة للفتى إلى مواصلة التعلم، وعدم القسوة على النفس، معتبرًا اعتذاره درسًا بليغًا يقدّمه الصغير للكبار، ورسالة أمل في التحسن والانتصار للذات.

انتهت رسالة الصادق سمل، لكن الدرس لم ينتهِ. فقد تحوّل هذا المشهد، الذي بدأ بخطأ فردي لطالب داخل فصل دراسي، إلى سؤال أكبر يواجه الضمير الجمعي: كيف أصبح “المذنب” الصغير معلّمًا، يمسك بطباشيرته الرمزية، ليعيد صياغة الأسئلة أمام شعب بأكمله؟

إذا كان ساتي قد اعتذر لمعلمه، فماذا عن اعتذاراتنا نحن؟ ماذا عن الاعتذار للأستاذ أحمد الخير، الذي قُتل بطريقة وحشية؟ قد يبدو السؤال عن العدالة في سودان الحرب ترفًا، لكن قيمتها لا تسقط بالتقادم. رقص طالب أمام الكاميرا كان صادمًا، لكن ماذا عن الرقص السياسي المتكرر فوق جراح المعلمين؟ كم مرة تمايلت السلطة بسياساتها أمام من يحملون الطباشير؟

وماذا عن أولئك “الراقصين” على حفلات شواء دمنا، ممن صنعوا ويواصلون صناعة هذا الخراب؟ الراقصين على إغلاق المدارس، وعلى تصنيف التعليم بين عام وخاص، وعلى تدمير صورة المعلم ومكانته؟

ها هو اعتذار من صبي، صغير في عمره، كبير في موقفه، يقف في مقابل أرشيف وطني يكاد يخلو من اعتذارات “الكبار” الذين صنعوا هذه الأزمة. فما أحوجنا اليوم إلى الاعتذار، بقدر حاجتنا لأن نعتذر للمعلمين عن واقعٍ عام لا ننتبه إليه إلا حين يتحول خطأ طالب إلى “تريند

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *