معلومات التواصل

السودان،الخرطوم،الرياض

متواجدون على مدار الساعة

“هندوسة”.. عاشق السودان الذي ابتلعه بحر عجمان — حكاية حزن مُعلن
تقارير – استقصائي

في مثل هذا التوقيت قبل ست سنوات، كان “هندوسة”، ومن هاتف صنع في تسعينيات القرن الماضي، يبعث برسائله قائلًا: “30 يونيو، الشعب أقوى، والردة مستحيلة”. كان الفتى مؤمنًا بالثورة، بالشعب، ومتشبعًا بحلم سودان الحرية والسلام والعدالة.

اليوم، وبعيدًا عن الخرطوم والسودان الكبير، ينتظر هذا الشاب أن تحمله جموع السودانيين على الأعناق، ليوارى الثرى في مقابر الصحابة بمدينة الشارقة الإماراتية، بعد أن غادر الحياة “غرقًا”، مبكياً على شبابه تاركًا خلفه دموعًا لا تنضب في شواطئ عجمان.

يوسف محمد “هندوسة” موسى، شاب سوداني “أغرق” أمس بلادًا كاملة في الحزن، فتوزع البكاء عليه في المنافي. تسابق كثيرون لصياغة عبارات النعي؛ نقابة الصحفيين السودانيين، محطات الإذاعة، منظمة شارع الحوادث، رفاق الثورة، وزملاء مشاوير التطوع، وأناس جمعتهم به الإنسانية. بكوه بدمع القلب والصدق معًا.

التايم لاين السوداني تدفق حزنًا، غطته صورة الراحل وقد كساها السواد. صورته مبتسمًا، أو حاملًا ميكرفونًا كمذيع لطفلة، فيديو له وهو يرقص في معسكر “بيالي” للنازحين، وآخر يظهر فيه مشاركًا في برنامج تلفزيوني يقدم فيه اعتذاره لـ”البلابسة” إن كان قد أوجعهم حديثه. هو صاحب النداء: “عاش السلام”.

السودانيون لا يمنحون حزنهم إلا لمن يستحقه، ودموعهم الغالية كانت سخية حين تعلق الأمر بيوسف.

كان يوسف بسيطًا، لكنه مؤمن بالسودان وشعبه وبحقه في الحياة الحرة الكريمة. مؤمن بأن هذه الأرض تسع الجميع وتسع أحلامهم. كان “شوّافاً” حد رؤيته الظلم من آلاف الأميال، وكان مِقداماً حين يتعلق الأمر بمقاومته. كان ثوريًا “فرز أول”، مبدعًا، وقبل كل ذلك وبعده، كان “إنسانًا”. عاش مثل “منسي”، على طريقته الخاصة — وما أجملها من طريقة.

هندوسة، أحد ثلاثة أسسوا مبادرة “شارع الحوادث”.. وما أدراك ما شارع الحوادث؟ حيث تُروى آلاف الحكايات عند ظل شجرة “ماما قسمة”. كان يؤمن بأن “أينما وجد طفل محتاج، يجب أن نكون”. كان أحد مصابيح الطريق التي أضاءت عتمة الحاجة لأم تبحث عن علاج لصغيرها المريض. المصابيح التي اشتعلت في عشرات الأقسام للأطفال حديثي الولادة -في بلاد يقتل صغارها المرض، عدم العلاج والعجز عن توفيره، لم يكن هندوسة مصباحًا في شارع الحوادث فحسب، بل كان نورًا يشع في وطن كامل.

كان من أوائل المواجهين للنظام، ومن المؤثرين في مجموعة “قرفنا”، و في مواكب ديسمبر، وكان حاضرًا في لجنة الميدان حين نُصبت خيام الاعتصام. مثّل في عدد من الأعمال الدرامية، وكان “الدينمو” المحرك لمجموعة “شوارعية”، وعمل مذيعًا في راديو “الطبية” وإذاعة “المِهن”، ووظّف كل ذلك في خدمة التطوع، التطوع الذي كان بالنسبة له طريقًا لخدمة الناس وتقريبهم من بعضهم، وكان السودان لديه دائمًا أولا وثانيا عاشرا وأخيرا.

ويا يوسف، يا يوسف، يا يوسف.. سامعني وما برد عليا، أمسك يا يوسف، هاك أمسك.. سامعني وما بمسك. طمِّنِي عليك.. أخرج صوتك، فتاها الغارق في بحر عجمان تناديك الخرطوم. وأسوأ إحساس هو أن يسكت عن الرد من كنّا نسميه “الاستجابة”، أن يغيب من كان “حاضرًا” في دفاتر كل القلوب، وتغيب عبارته “حاضر” “قدام”، وتغيب معها ابتسامة هندوسة.

في زمن الغياب، تبدأ صباحات الخرطوم بهذا الخبر: “غرقًا في شواطئ عجمان”.. بعيدًا عن الدروب التي خبرت خطاه وخبرها. في نقطة من نقاط الشرطة، ينتظر جثمانه تصريح الدفن.

مات “هندوسة” في زمن الغرق الجماعي، وكأنه قرر أن يفدينا بروحه. نجا هو ببساطته، وتركنا نغرق في نهر الدموع، ونحن الغارقون أصلًا في بحر موتنا الجماعي. لوّح بيده مودّعًا، كما كان يفعل دومًا، وقال: “دي حتة أنا ما بقدر أقعد فيها”.

ربما للمرة الأولى، يُهدي يوسف أصدقاءه وجعًا لا يشاركه معهم. ويا لوجع الحياة دون أصدقاء.. ويا لبؤسها! غادر يوسف دون أن يخبرنا من لضحكة أم تنتظر دواء صغيرها وهو الذي قال لها “منتهي”.
دون أن يكشف لنا عن ضحكة الخرطوم حبيبتنا.
كيف لها أن تفعل وهو ليس فيها؟ كيف لسمائها أن تصفو وهي تنتظر حبيبها.. حبيب أحبابها؟

وماذا عن شارع الجرائد، قريبًا من بيت ناس كِشّة، عن حلم “الكافيه”، عن قهوة “حاجة زينب”، عن “جمال الحلاق”، عن شارع الحوادث، والبلد التي باتت كلها “شارع حوادث”، عن “رد الجميل”، و”كنزي”، و”كمال الزين”، وعن كثيرين وكثيرات.
حفلتك.. الحنة.. وما تبقى من القصص؟ يسألون عنك في منصات مارك، وأنت الغائب بموته، الحاضر بكونك “التريند”.

اختار القدر أن يختم قصة حياة هندوسة، واختار يوسف أن يغوص بعيدًا عن برٍّ صار لا يليق به ولا بضحكته. ضاق ذلك البرّ بروحه المتسامحة والمتسامية. اكتشف أن الموت أخف على الميتين من زحام مواصلات جاكسون، وأكثر برودة على الروح من ضيق العجز عن توفير جرعة دواء لطفل، وأخف على قلبه من ثقل الكراهية.

استقبله الموت بثبات، وودّعه بابتسامة، وهمس له: أن يُدفنك أصدقاؤك أهون على القلب من أن تدفنهم.

سيدفنونه، وسُيكتب على شاهد قبره:
“الموت هو راحة الميتين، لكنه عذاب الأحياء. الحياة التي كان يوسف يُجمّلها ستصبح أكثر قبحًا بعده. الموت ليس قضية الأموات، بل هو قضية من يعيشون بعدهم. هنا يرقد من عجز الموت عن قتله في قلوب أهله وأحبابه وعارفي فضله . هنا يرقد من يسمع هتافنا ونحن نودّعه: (أنت.. الموت بزيدك بهاء).”

Share:

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *