مشروع “ كوكا “ العبث بأحلام المزارعين
تحقيق : نسيبة الحاج
“انتظرنا الخير فجاءنا الدمار كل ما بنيناه ضاع”. لم يكن الخراب في مشروع “كوكا الزراعي” نتيجة الحرب او قوى الطبيعة، بل نتيجة قرارات ارتبطت المصالح، وعقود مشبوهة، وإدارة عمياء تجاهلت التحذيرات، والخراب لم يقف عند الزراعة والمحصول، ولكن امتدت إلى المنازل فهدمها، وبدلا أن يكون نعمة على المواطنين تحول إلى نغمة، في ظل تجاهل من المسئولين في محلية دلقوا والولاية الشمالية.
هذا التحقيق يكشف، كيف غرس الفساد بذوره في كل مرحلة مراحل مشروع (كوكا) وتسبب في ضياع حقوق المزارعين والسكان على حد سواء ،وسط متاهة الإهمال والفساد الإداري و البيروقراطية .
بداية المشروع
لسنوات طويلة، كان مشروع كوكا الزراعي في الولاية الشمالية محلية دلقو، بمساحته البالغة 5,319 فدان، نبض الحياة الاقتصادية في المنطقة ونموذجًا للأمل الزراعي. كان مشروعًا ناجحًا يمول ذاتيًا من عائداته، ويوفر الرخاء لمئات الأسر. لكن ما بدأت قصة نجاح تحوّل، خلال سنوات قليلة، إلى مأساة اقتصادية واجتماعية، هدّمت المنازل، وفشل المحصول بسبب الري الزائد، وأشعلت نزاعات بين المزارعين، تاركة وراءها أسئلة معلّقة عن سوء الإدارة، والتخطيط الفاشل، والفساد المؤسسي المغلّف بالتقارير الرسمية، يقع مشروع الكوكا بالولاية الشمالية، في مناطق دلقو المحس، وكانت منطقة المشروع المجاورة لنهر النيل، منطقة زراعة تقليدية لأهل المنطقة، ثم تدخلت الحكومة وقررت توسعة الزراعة ، وتخصيص مساحة (5,319) فدان للزراعة الشتوية وتجديدا استهدف زراعة محصول القمح، في 2010، وقع الاختيار على شركة زادنا لتنفيذ المشروع من الجوانب الهندسية، وبحسب مصادر من المشروع الدراسات لم تكن بالدقة المطلوبة رغم الميزانيات الكبيرة التي خصصت للتنفيذ، وفعليا بدأت العيوب والمشاكل تظهر من الموسم الأول للمشروع، ثم تفاقمت مع الوقت إلى أن توقف المشروع عن العمل لمدة عامين، متسببا في خسائر كبيرة للمزارعين، وكما أسلفنا لم تقتصر الأضرار على الزراعة ولكن طالت الممتلكات العقارية والمنازل والبنية التحتية للمنطقة.
تسريب المياه (النز) كارثة أولى
تروي الجدران المتشققة وحجارة البيوت المنهارة في قرية كوكا، حكاية فسادٍ ابتلع حلمًا كلّف الدولة المليارات، وبحسب المزارعين والسكان لم يكن الخراب نتيجة الحرب او قوى الطبيعة، بل نتيجة قرارات ملوّثة بالمصالح، وعقود مشبوهة، وإدارة عمياء تجاهلت التحذيرات على حد قولهم،، أحد ضحايا المشروع، يقول وهو يقف على أنقاض منزله: “انتظرنا الخير فجاءنا الدمار كل ما بنيناه ضاع”.
وحكى عدد من المواطنين تفاصيل ما أصاب منازلهم والمحلات التجارية في الأسواق، وقال المواطن محمد عابدون – في 60 من العمر- ” تم تخطيط المشروع وجاءت آليات كبيرة وقامت بشق ترع الري، وتم تركيب طلمبات بعد حفر البيارة على ضفة النيل، ولكن بعد فترة وجيزة من مليء القنوات والجداول بالماء بدأنا نلاحظ “نز” تسرب الماء حول الجداول والقنوات، ثم بدأ الماء يتسرب إلى حوائط المنازل” وتطور الأمر إلى سقوط الجدران والغرف وخاصة في البيوت المجاورة للمشروع.
ضرر تسرب المياه من قنوات الري لم يقتصر على المنازل، ولكن أصاب المحصول ضرر واضح، ولم تصل المياه إلى بعض المزارع،والمياه التي وصلت كانت درجة حرارتها مرتفعة لا تصلح للري، و تقلصت المساحة من (5,319) إلى أقل من (1000) فدان في بعض المواسم الشتوية، ثم توقف تماما لمدة عامين، ، وخسر المزارعين خسارات كبيرة جراء هذا التوقف وتأثرت حياة سكان المنطقة لأنهم يعتمدون على الزراعة في اقتصادها، وقال أحد السكان ” بدل من أن نكسب من المشروع خسرنا وحتى التجار تضرروا لأن أهل البلد لم يعد لديهم دخل”
إنكار الجريمة
مشكلة تسريب المياه من قنوات الري (النز)، كما أسلفنا أصاب الزراعة بأضرار كبيرة، إلى جانب هدم منازل السكان، وما لم يسقط منها بات آيلا للسقوط، ومع هذا الوضع وبعد أن دفع المزارعين كل ما عليهم لاستثمار الأرض بعضهم لم يحقق محصول يناسب الصرف على تحضيرات الزراعة والبعض لم يزرع لأن مياه الري لم تصل إلى أرضه الزراعية، وقال محمد حاج حسن عبد الحليم – قرية المترات- ” دفعنا أموال كثيرة أولا رسوم الحواشات وكانت 15 ألف جنيه وقتها مبلغ كبير، وفي كل موسم ندفع ثمن التقاوى والري وعمليات التحضير وفي كل موسم نخسر بسبب ضعف الإنتاج” وبعض المزارعين لم يتمكن من الزراعة، أو زرع جزء محدود من الأرض بسبب شح مياه الري، وقال صالح عابدون” كنا نزرع مساحات صغيرة وفي بعض المواسم لم نزرع إلا أن توقف المشروع نهائيا” بعد تضرر المزارعين واحتجاجهم على ذلك بسبب الأعطال المتكررة في طلمبات الري وعدم القدرة على صيانتها، تقرر إيقاف العمل في المشروع، واستمر هذا الإيقاف عامين كاملين، وتسبب ذلك في أوضاع كارثية للسكان المعتمدين في معاشهم على الزراعة وهم 90% من سكان قرية البركة وكوكا في دلقو المحس، وقال أحد المزارعين” خسرنا أثناء عمل المشروع وخسرنا أكثر عندما توقف لذلك طالبنا بالتعويض”
في أول الأمر أنكرت إدارة المشروع أن الدراسات المتعجلة وعدم معالجة التربة هي سبب تسريب الماء، ولما تعطلت طلمبات الري في 2013 واتضح أن تصميم بيارة الري التي تضع فيها الطلمبات غير مناسب، اعترفت بتحمل المسئولية، وشرعت في حصر المتضررين لأجل التعويض ولكن هذا لم يحدث.
ما هو السبب الحقيقي؟
تواصلنا مع عدد من الخبراء أكدوا جميعا أن فسادا واضحا وراء ما جرى في مشروع الكوكا الزراعي، أول الملاحظات كانت حول عدم دراسة طبيعة التربة، وهي عملية حاسمة في اختيار نوع المحاصيل التي تزرع والأهم من ذلك تصميم قنوات الري، وتحديد طبيعته وقال المهندس الزراعى مصطفى عبد الله ” لا يمكن أن تصمم طريقة ري قبل دراسة التربة وعمل مسح يحدد انحدار الأرض ويدرس الطبقة السطحية وطبيعتها” وأشار مصطفى إلى أن منطقة كوكا والبركة ووفقا لما جرى من تسريب في المياه، كان من الأفضل الاعتماد على مواسير على الأقل في القناة الرئيسية، رغم تكلفتها على حد قوله، إلا أنها يمكن أن تحقق عائد، والمشكلة الثانية التي واجهت المشروع “البيارة” وهي المنطقة التي توضع فيها طلمبات سحب المياه من النيل، وبسبب طبيعة المنطقة قامت الشركة المنفذة الحفر عميقا وتركيب طلمبات ضخمة بأوزان مرتفعة، وقال مهندس الري الصادق إبراهيم” حفر بيارة بهذا العمق لم يستدعي طلمبات ضخمة، وهذا غير مجدي وكان من الممكن أن تتم عملية رفع المياه على مرحلتين ببناء أحواض تسحب منها المياه إلى الحقول”، وعليه تحمل المزارع في مشروع الكوكا الزراعي خطأ الشركة المنفذة شركة زادنا.
الشك باليقين: المشروع سبب الأزمة
عدد من المواطن أكدوا أنهم مع الوقت تأكدوا أن المشروع وراء كارثة النز في المترات وغيرها، وليس المواطنين وحدهم كذلك المسئولين، وقال عضو لجنة متابعة مشكلة النز محمد عابدون ” قمنا بدراسات و موسحات وبحسب خبراء استعنا بهم، أن الري الفائض عن الحاجة وطبيعة التربة هما السبب الرئيسي في تسرب المياه” وأضاف ” يحسب خبير المساحة المزروعة لم تتعدى (1500) فدان ويتم ريها بكميات مياه تكفي 20 ألف فدان، ومع مرور الوقت تشبعت التربة وصعدت إلى السطح” ووفقا الأعضاء في لجنة متابعة حل المشكلة وفي اجتماعات مع الإداريين في المحلية اعترفوا بأن المشروع هو السبب ولكن لم يقدموا حلول للمشكلة سوى إيقاف المشروع والري فيه,
الآبار مؤشر جديد
من البين الظواهر اللافتة ، ارتفاع مناسيب الآبار في منطقة المتراب والبركة وكوكا، وقال المواطن محمد حاج ” قمنا بمسح الآبار في المنطقة وزرنا أكثر من 16 بئر، ووجد الماء أرتفع إلى ثلاثة أو أربعة أمتار” وأشار مواطنون إلى أن في السابق أي قبل عشر سنوات كان الوصول إلى المياه الجوفية يتطلب الحفر إلى عمق (9) أمتار وبعد المشروع تجد الماء بعد عمق مترين أو ثلاث، ويرى خبراء جيلوجيين أن هذه الظاهرة تمثل خطر كبير على المباني والمنشآت، وفي بعض المناطق وخاصة في الشتاء تظهر المياه على السطح بشكل واضح، كما يبدو البلل على الجدران والمباني طوال اليوم، وهو ما يتسبب في التشققات وفي سقوط بعضها آخر المطاف.
المشروع في حالة “صفرية”
كشف مدير مشروع كوكا الزراعي صديق محمد عن الأسباب الحقيقة للتدهور الذي حدث في المشروع، وكذلك كشف عن ممارسات غير شفافة وفساد كان له عواقب وخيمة على المشروع وقال ” استلمنا إدارة المشروع وهو متوقف، والميزانية صفر، ومشاكل في كل الطلمبات، ومحركات محترقة”.ونسبة للأضرار الكبيرة التي خلفتها مشكلة “النز” تسرب المياه، كان من الصعب إقناع السكان المحليين بإعادة تشغيل المشروع وقال” الأهالي رفضوا تشغيل المشروع مرة أخرى خوفا من هدم مزيد من المنازل، وكان علينا اقناعهم والتعهد لهم بحل المشكلة” إلا أن المشكلة الأكبر التي تنتظر إدارة المشروع الجديدة، هي توفير ميزانيات لإصلاح الأخطاء التكنولوجيا ومشاكل الفنية.
انجازات زائفة ومعلومات مضللة
وخلال المقابلة كشف مدير المشروع صديق محمد عن فساد كانت تمارسه الإدارة التي تسلم منها إدارة المشروع، وقال أن المساحات التي يعلن عن أنها زرعت في المواسم السابقة لم تكن حقيقة، وأشار إلى أن في السابق كان المعلن أن ما يتم زراعته يمثل 80% من المساحة، ولكن الحقيقة لا يتجاوز 50%، وقال ” الوزارة تعلن أن المساحة المزروعة 3,500 ولكن في الحقيقة المساحة المزروعة فعليا لا تتجاوز 2,500″ وسبب هذه الممارسة بحسب المدير ” وزارة الزراعة تطالب إدارة المشروع بمساحة محددة، لذلك هي تقوم بكتابات أرقام على الأوراق غير حقيقة وليست مزروعة على الأرض” وكذلك كشف مدير المشروع عن فساد آخر وقال ” الإدارة السابقة كانت تقلص مساحة الأرض المروية من أجل توفير الوقود ويحول إلى ميزانية إصلاح الأعطال” ويعد ما ذكره، فساد صريح وتقديم معلومات مضللة من إدارة المشروع للوزارة في الولاية.
المدير يعترف
في مقابلة مع مدير إدارة المشاريع بوزارة الزراعة بولاية الشمالية زكي عوض ، أكد أن السبب الرئيسي في عدم نجاح مشروع كوكا الزراعي، هو سوء التخطيط، وأخطأ اتركبتها شركة زادنا العالمية منفذة المشروع، وقال ” تراكم اعطال الطلمبات وعدم صيانتها إلى جانب “النز” تسريب المياه هي أسباب تدهور المشروع” وشرح مدير إدارة الزراعة المشكلة قائلا ” تصميم القنوات لم يراع التربة القابلة للنز بشكل كافيمما أدى إلى تسريب الياه المخصصة للمحاصيل إلى المناطق المحيطة” وأضاف أن عدم كفاية المياه واترافع درجة حرارتها جعلها غير صالحة للزراعة وذات تأثيرات سيئة على الانتاج، وعن مشكلة طلمبات الري قال” الطلمبات التي تم ركبتها شركة زادنا حديثة وغير تقليدية، لكنها لا تناسب ظروف بيئة الولاية الشمالية وكانت تتعطل باستمرار” والمشكلة الأخرى التي تحدث عنها مدير الزراعة تتعلق بعدم توفر قطع الغيار ولا يوجد فنيين وعاملة مدربة على التعامل معها، وباختصار أن الطلمبات التي تم استرادها لمشروع كوكا الزراعي لم تتوفر لها خدمات ما بعد البيع، ولا يوجد لها وكيل في السودان، لذا كانت قطع غيارها نادرة ومرتفعة التكلفة، فضلا عن أن الفنيين عمدوا إلى التجريب في صيانتها، والمشكلة الأكثر تعقيدا والمتعلقة بالطلمبات بحسب مدير إدارة الزراعة هي تصميم ” البيارة” إضافة إلى حجم الطلمبات نفسها وقال ” البيارة التي صممتها زادنا عميقة، والطلمبات حجمها كبير وثقيلة الوزن تحتاج إلى كرين وزن 50 طن وهذا غير منوفر في الولاية ولا لدى شركة زادنا، وهذا ما يجعل الصيانة تتوقف لفترات طويلة وفي حالة الاعطال تصعب المعالجة,
شركة زادنا :فساد محمي بالسلطة
كان من السهل الوصول إلى الشركة المنفذة، وهي شركة زادنا العالمية، وهي أحد أكثر الشركات في السودان سيطا، ويكفي أن شركة زادنا فرضت عليها الإدارة الأمريكية مؤخرا عقوبات ووضعتها في قائمة الشركات المحظورة، بعد اتهامها بتمويل الحرب الدائرة في السودان، وشركة زادنا هي الشركة المنفذة لمشروع كوكا الزراعي، والتي يتفق غالب من تحدثوا إلينا أنها السبب الرئيسي في عدم نجاح المشروع، والبعض اتهمها بأنها أهدرت مالا عاما، بالإهمال في دراسة المشروع قبل الشروع في التنفيذ، والفساد كون أنها استوردت طلمبات وآليات غير مناسبة دون أن تبرر ذلك، وعندما سألنا الشركة عن ملف مشروع كوكا الزراعي تحججوا بأن المستندات في رئاسة الشركة بالخرطوم وتعرضت للحرق جراء الحرب، و جميع من تحدثنا أليهم قالوا أنهم لا علم لهم بإجراء عطاء من قبل الوزارة الولائية والمركزية، أدى إلى رسو العطاء على زادنا، وهي شركة كانت تتبع للحزب الحاكم وقتها قبل سقوط نظام البشير، وأصبحت بعدها ضمن شركات منظومة الدفاعات التي تتبع للجيش.
التنازل عن التعويض
في محاولة استغلال ظروف المزارعين، وعلى الرغم من أنهم ممثلين في إدارة المشروع، سعت الإدارة إلى التملص من جريمة فشل المشروع، وبالذات ما يتعلق بمشاكل الري، وتسريب المياه “النز” وما تسبب فيه من هدم للمنازل، وبعد أن طالب المزارعون بالتعويض ووافقت الإدارة على ذلك وشرعت في حصر المتضررين ونسبة الضرر، عملوا على إقناع المزارعين بأن المشروع لم يتسبب في التسريب، وقال مدير الزراعة والمساحة في محلية دلقو ” المزارعين تنازلوا على التعويض بعد أن اقناعنا بأن مشروع كوكا ليس سببا مباشرا في تسريب المياه” ولكنه ناقض نفسه عندما قال” لحل مشكلة التسريب قمنا بتبطين القنوات من الداخل بمادة عازلة وكونا لجنة للمراقبة، وبعد أسبوعين توقف التسريب”، وعلى الرغم من إجماع الخبراء والمسئولين بأن ضعف الدراسات التي سبقت المشروع هي السبب في التسريب وفي فشل المشروع إلا أن الأهالي والمزارعين لم يتم تعويضهم إلى اليوم.
واقع غير مبشر
تكشف من خلال هذا التحقيق، أن مشروع كوكا تعرض للإهمال، والفساد والمعلومات المضللة، وفي نهاية الأمر حصد المزارعين وسكان المنطقة فشل زريع انعكس على حياتهم، مستقبل منطقتهم، بينما حصلت الشركة على أموال ضخمة بحسب الأهالي نفسهم، رفضت الشركة الإفصاح عنها، وواقع الحال بعد جولة ميدانية في المشروع لا ينبيء بخير، ومن الواضح أن الأمور لا تزال متعثرة، وأن الحكومة التي وعدت بدعم زراعة محصول القمح ليس لديها إمكانية لذلك مع ظروف الحرب، لذلك على الحكومة أن تتدخل أو على أهالي المنطقة أن يبحثوا عن حلول سريعة بعد تقديم من تسببوا في هذه الكارثة إلى المحاسبة.
فيديو يوضح اثار النز :-