في زمن الضنك والحسرة… السودان يبكي الفنان محمد الجزار
تقرير – استقصائي
“أنا أستأذن” – لم يرددها هذه المرة الفنان السوداني الشاب محمد فيصل الجزار على خشبات المسارح أو عبر شاشات التلفاز، بل نطق بها هناك، في أحد مستشفيات مدينة القضارف، ثم أغمض عينيه إغماضته الأخيرة.
مات الجزار.
عبارة انسابت في وسائل التواصل الاجتماعي والمنصات السودانية بسرعة فاقت سرعة الموت نفسه، وتلقفها الناس بين مصدق ومكذّب، على أمل أن تكون مجرّد إشاعة من زمن امتلأ بالكذبات. لكنها كانت الحقيقة القاسية: الموت خطف الفنان الذي أصيب بحمى الضنك، إحدى الوسائل الصامتة التي تحصد أرواح السودانيين في زمن الحرب، وسط ضعف الرعاية الصحية، وانشغال الحكومة بالطرق المؤدية للموت، لا بتلك التي تمهد للحياة.
مات الجزار، وترك لأصدقائه الحزن، وترديد أبيات تُشبه حال بلادهم:
موت الموت أخير لك يابا، شن بتدور بالحالة المائلة؟
وقولة التابا، شن بتدور بالبلد الفضلت تبكي شبابا؟
بعيدًا عن الخرطوم التي نشأ وترعرع فيها، وأحبّ طرقاتها وأحبّته، أعاد النداء للغائبين:
“أن عودوا للديار، الزول مهما طال غيابو، مصيرو يرجع لأهلو وأحبابو.”
لكن لم يرجع الناس، ومات صاحب النداء بعيدًا عنهم.
ومن أعاد توزيع أغنيات الزمن الجميل، قتله من أعادوا توزيع ظلمهم على الجميع، وبكامل العدالة.
غادر الجزار الخرطوم التي شهدت انطلاقته مطلع الألفية، بعد أن درس الموسيقى وهندسة الصوت في مصر، وهي المقومات التي مكّنته من صناعة تجربته الخاصة، وصنعت اسمه وصيته. انتقل إلى القضارف، حيث أقام في حي الصومعة، مثل كثيرين غيره ممن أجبرتهم الحرب على الرحيل. ترك مدينته ومركزه الموسيقي ومنزله. وما أسوأ أن تُجبر على القتال وأنت محروم من سلاحك.
مات الجزار بالحسرة، قبل أن تقتله حمى الضنك. لم يمت في الجبهة، ولم يحمل سلاحًا مع أحد أطراف النزاع. رحل مثل كثير من ضحايا هذه الحرب، لم يكن يطلب أكثر من حقه في الحياة، في الحلم، في الغناء. سقط، وانكسرت آلته التي لم تعد تحتمل – مثل صاحبها – فوضى البارود.
غادر الجزار ضفة الحياة. مات في ذات البلاد التي أعاد توزيع أغنياتها، في زمن لم تعد فيه الحياة ترفًا، بل حتى متابعة “الموتى” صارت ترفًا لا يناله من يستحقه. الخرطوم، التي لم تستطع مرافقة جثمان ود الأمين إلى مثواه الأخير، هي ذاتها المدينة التي عجزت عن احتضان جثمان حبيبها محمد فيصل.
ضاقت به ساعة حرب، ولم يتّسع له شبر في مقابر الصحافة. ما أقسى الموت، وما أضيق الزقاقات التي تعتقلنا فيها الحرب.
في الساعات الأولى من صباح الأربعاء، فقدنا فنانًا عرف الإتقان فيما يقدمه، وكان من السبّاقين في رقمنة الأغنية السودانية، ما قاده لتشكيل وعي جديد لدى مستمعيه. استفاد من قدرته على استخدام التكنولوجيا الحديثة، وامتلك مهارة التلحين، وروحًا نقية مكنته من بناء شراكات فنية مع العديد من الفنانين.
فقدت البلاد فنانًا واعيًا، كانت قضيته الرئيسة هي الفن وتطويره، ولم ينشغل بالتصريحات التي تشتته عن واجبه المقدس.
لم يكن الجزار مجرد فنان أو مؤدٍ، بل كان صاحب رسالة في الحياة. “راقي ومهندم”، إنساني لأبعد الحدود، صاحب لأصحابه، زول من غمار الناس، وود حلة يعرف الواجب ويسعى إليه دون كلل. كان مرتبطًا بالسودان وأهله، متمسكًا بجذوره، حالِمًا بغدٍ أفضل.
وحين حزم البعض حقائب الرحيل إلى الخارج، ظل يغني لحلم العودة إلى الخرطوم… إلى الحياة.
الجزار… رمز الحياة الذي هزمته الحرب.
اكتفى بأن يحتضنه طين القضارف، حيث قُبر هناك، مثله مثل بذور السمسم والذرة، في انتظار أن تملأ البلاد سنابل السلام.
مات هناك، تاركًا للخرطوم وأهلها وجع السؤال:
كيف يعني ما نشوفك؟ كيف يعني ما نلاقيك؟
ورُفعت الأكف بالدعاء أن يرحمه الله، ويرحم من بقي على قيد الحياة في بلاد الحرب والموت.