الأوبئة تواصل ما بدأته الحرب: في جسد السودان العاري الكوليرا تفضح الخراب
تقرير: مواهب عبد اللطيف
لم يعد الموت حكرًا على القنابل والغارات. هناك موتٌ أكثر صمتًا، يتسلل عبر قطرة ماء، أو جرعة طعام ملوثة، أو جسد لم يتلقَ رعاية طبية. إنه وجه آخر للحرب، تمثّله الكوليرا التي تضرب بلدًا تتآكله الأوبئة كما تتآكله النيران.
منظمة الصحة العالمية أطلقت تحذيرًا صارخًا: السودان يواجه انهيارًا صحيًا كارثيًا، في ظل عجز شبه كامل لنظام متهالك، وتراجع قدرات الدول المجاورة على احتواء اللاجئين الفارين من أتون الحرب.
في أحدث تقرير لها، سجّلت المنظمة ما يقرب من 60 ألف حالة إصابة بالكوليرا في السودان، بينها أكثر من 1,640 وفاة. هذا ليس رقماً صحياً فحسب، بل مؤشر على انهيار شبه كامل للبنية الصحية في البلاد.
وباء وسط أنقاض الدولة
بعد أكثر من عامين على اندلاع القتال، أصبحت أزمة النزوح في السودان هي الأكبر في العالم. 14.5 مليون شخص أجبروا على ترك ديارهم، وأكثر من أربعة ملايين فرّوا إلى دول الجوار: مصر، تشاد، جنوب السودان، إثيوبيا، ليبيا، وأفريقيا الوسطى. هؤلاء لم يأخذوا معهم سوى الخوف والجوع… وأحيانًا العدوى.
وفي الربع الأول من العام الجاري فقط، عبر 200 ألف شخص الحدود إلى جنوب السودان، رغم أن هذا البلد نفسه غارق في صراعاته. إجمالي من فرّوا إلى هناك منذ بداية الحرب تجاوز المليون، معظمهم بلا مأوى ولا دواء.
ووفقاً لمقارنة مع أزمات سابقة، لم يشهد السودان تفشيًا مماثلًا منذ جائحة الكوليرا عام 2017، التي سُجّلت خلالها نحو 36 ألف إصابة و800 وفاة. اليوم، تتضاعف الأرقام وسط انهيار تام.
الكوليرا تتجاوز الحدود
الوباء لم يبقَ داخل السودان. فالدول المستضيفة للاجئين تعاني بدورها. في شرق تشاد، تنتشر الملاريا والتهابات الجهاز التنفسي الحادة وسوء التغذية. وفي إثيوبيا وجمهورية أفريقيا الوسطى، هناك تفشٍ للكوليرا والتهاب الكبد الوبائي (هـ). أما مصر، فقد سجلت حتى نهاية أبريل 1.5 مليون وافد سوداني جديد، وتتكفل بتغطية نفقات الرعاية الصحية لهم من خلال برنامج خاص.
صحّة في مرمى النيران
تشير بيانات منظمة الصحة العالمية إلى أن الولايات السودانية الأكثر تضررًا من الكوليرا تتقاطع جغرافيًا مع مناطق المواجهة المباشرة بين أطراف النزاع، مثل ولايات الجزيرة، كسلا، النيل الأبيض، ودارفور.
تسير العدوى مع النازحين، وتختلط مياه الشرب بمياه الموت. كل ذلك في ظل غياب نظام إنذار مبكر فعّال، وعدم وجود مراقبة انتقال الأمراض عبر الحدود.
المديرة الإقليمية لمنظمة الصحة العالمية لأفريقيا، الدكتورة ماتشيديسو مويتي، قالت في تصريح حديث:
“الوضع في السودان مرعب… نواجه وباءً وسط منطقة حرب، وشللًا تامًا في قدرة النظام الصحي على التحرك.”
عقبات الاستجابة: التمويل يتهاوى والوباء يتمدد
تؤكد المنظمة أن قدرتها على الاستجابة تتقلص يومًا بعد يوم. العجز المالي دفع بعض الشركاء إلى وقف أنشطتهم، بينما الهجمات على المرافق الصحية زادت من انعدام الأمان، وعرقلت إيصال المساعدات والسيطرة على الأوبئة.
كما يعاني السودان والدول المضيفة من نقص في الكوادر الطبية، انهيار في أنظمة الرصد الوبائي، وشح في المياه النظيفة ومستلزمات النظافة الشخصية.
صوت من تحت الركام
ما تقوله الكوليرا – دون أن تتكلم – إن الدولة السودانية سقطت ليس فقط في ميادين الحرب، بل في المستشفيات والمراكز الصحية والمخيمات. الحرب تقتل بالجملة، أما الكوليرا فتُذكّر بمأساة الفرد… بالموت الذي يمر بصمت، بعيدًا عن عدسات الكاميرات.
ومع دخول موسم الأمطار، يتوقع أن ترتفع وتيرة التفشي. إن استمرار الحرب لا يعني فقط تمدد رقعة النزوح والموت، بل سحق ما تبقّى من ملامح الحياة في السودان. لا يمكن للمنظمات وحدها أن تحمي الأطفال من الكوليرا، أو توفر الماء النظيف للنازحين. ولا يمكن للمجتمع الدولي أن يستمر في سياسة البيانات الباردة، بينما تتكاثر المقابر الجماعية وتتفشى العدوى بلا رادع.
سؤال لا يحتمل التأجيل
ما يحدث ليس كارثة طبيعية، بل نتيجة مباشرة لتقاعس سياسي داخلي، وتواطؤ خارجي بالصمت.
في وطن يُطوى على الخرائط ويُزاح عن الشاشات، يبقى المرض شاهدًا حيًا على ما تركته الحرب، وما لم تعالجه السياسة.
ويبقى الخطر ليس في الوباء وحده… بل في أن نعتاد عليه.