معلومات التواصل

السودان،الخرطوم،الرياض

متواجدون على مدار الساعة

 

الخرطوم- استقصائي

يُعاني (25) ألف مشرّد تنحدر أصول مُعظمهم إلى (4) دول أفريقية، يتوزّعون على شوارع الخرطوم يعانون من واقع مُرٍّ فرضته عليهم ظروف الفقر والحروب، إلى جانب التفكك الأسري والكوارث والأزمات والتداخل القبلي على الحدود.

كثيرٌ بينهم لا يعرف من أين أتى؟ وماذا يُريد، يُهيمون في الطرقات بحثاً عن لقمة تسد رمقهم أو مأوى يَهجعون إليه ليلاً.. يقتاتون من “القمامة”، ويضطرون أحياناً لاستخدام القوة للحصول على الطعام.. منهم الرّضيع والمُسن من الجنسين، وأغلبهم صبية فاتهم قطار التعليم، وأخطأتهم حملات الرعاية الصحية والتطعيم.

وكما تضيق بهم الأرض وهُم أحياء، تتعذّر مواراتهم الثرى إذا ما فارقوا الحياة.

وفيما أصبح التشرُّد ظاهرة تحتاج إلى حلٍّ سريعٍ ، دخلت (استقصائي) من خلال تحقيق إلى عوالمهم الخاصّة، لتقف على تفاصيل حياتهم.

 

أرقام وإحصاءات

كشفت إحصائية غير رسمية وجود 25 ألف متشرد في ولاية الخرطوم وطبقاً لتقرير رسميٌّ سابق لوزراة التنمية الاجتماعية ولاية الخرطوم ، فإنّ أغلب المُشرّدين أجانب من جنوب السودان والنيجر ونيجيريا وتشاد، بينهم (3250) مشردا تشرُّداً كاملاً والبقية تشرد جزئي، مُوضِّحاً أنّ عدد القُصّر والأطفال (2270)، بجانب وجود (40) مسناً و(14) مسنة داخل دُور الإيواء، والبقية فوق سن (18 – 25) عاماً، أمّا السُّودانيون إفرازات مناطق الحروب بولايات دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق والولايات الشرقية، و(60%) من مُشرّدي ولاية الخرطوم تشرُّد جزئي، نتيجة للمشاكل الأسرية ويتم استغلال جميع المشردين من قبل شبكات الاتجار بالبشر للتسوُّل.

وأكد التقرير عدم وجود إحصائية للفتيات المُشرّدات، منوها إلى أن ظاهرة تشرُّد الفتيات ظهرت خلال التسعينيات، ويتواجدن في محليتي “الخرطوم وبحري”، وتضم جميع الفئات العمرية، بجانب الجيل الثاني والثالث من المُشردين، مُبيِّناً أنّهم أبناء المُشرّدين أباً وأماً وجداً.

الرغبة في التعليم

موسى طفلٌ يَبلغ من العمر (13) عاماً لا يعلم أين والديه ولا يدري كيف وصل إلى الخرطوم، يمضي وقته على الأرصفة والطرقات، يأكل بقايا الطعام، يعمل على جمع مُخلّفات البلاستيك والحديد وأحياناً غسيل السيارات، وينام تحت الجسور والمباني القديمة. وقال، بعد أن حبس دموع عينيه: إنه لا يرغب في العيش مشرداً وله الرغبة في التعليم ولكنه لا يملك مالاً أو (قروش) بحسب لغته البسيطة.

وأكد موسى في حديثه لـ (استقصائي)، أنّ هناك من يجلب لهم الطعام والملابس في الشتاء، منوهاً إلى أن الطعام لا يسد رمقهم مما يضطرهم إلى ممارسة الخطف وسرقة الطعام من المطاعم وأحياناً من المنازل، وتشبه حياة موسى، آخرين يتجرّعون مرارة الحرمان من المأكل والمشرب والمأوى، حيث كشفت جولة لـ (استقصائي) على أماكن تجمُّعات (أولاد الشوارع) عن أحوال الكَثيرين من أمثال موسى، تبدو على بعضهم علامات إعياءٍ وتعبٍ، فمنهم من يترنّح ويكاد لا يستطيع الوقوف، وآخرون يظهر من تعامُلاتهم أنهم يُعانون من خللٍ عقلي، ومنهم من يحمل قارورة على يده، وآخرون يضعون قطعاً صغيرة من القماش على أفواههم بها مادة طيارة (سلسيون)، ومنهم من يتسوّل طالباً المال لشراء الطعام.

لماذا السلسيون؟

وطبقاً لأطباء فإن هدف المُشرّدين من تعاطي الكحول والمواد الطيارة (السلسيون) الهروب من قسوة الحياة والعُنف الذي يتعرّضون له في سبيل البحث عن السعادة والفرح، وأردف: يتعلمون التعاطي منذ الصغر مِمّا يقود إلى الإدمان.

تقول فاطمة ذات الثمانية عشر ربيعاً، إن الفتيات بينهن يلدن، دون أن تعرف إحداهن من هو أب الطفل، وأشارت إلى مجموعة منهم تحلّقت حول إحداهن وهي تحمل لفافة حمراء يبدو أن بداخلها رضيعاً، قائلة “زي ما شايفهم بتشاكلوا في طفل سارة”، مشيرة بسبابتها نحو مجموعة من الشباب تحلّقوا حول سارة وهي تضم قطعة حمراء إلى صدرها بها طفل يصرخ من لسعات وهج الشمس، وهمّت بالذهاب وخلفها مجموعة من الشباب، وتابعت: “نحن لقينا أنفسنا في الشارع مثل هذا الطفل، لا نعرف مكاناً غير هذا الكوبري، فهو بيتنا وبعد نكبر لا نعرف أمهاتنا”، ومضت في حديثها قائلةً: “المات مننا تأخذه الشرطة، وسمعتهم بقولوا ماشين المشرحة وبعدها لا نعرف ماذا يحصل”.

مجهولون في المشارح

وحول الإجراءات التي يتم اتخاذها حيال المُشرّدين الموتى، قالت هيئة الطب العدلي بوزارة الصحة ولاية الخرطوم، إن الجثامين تدخل إلى المشرحة ويتم أخذ صور من مسرح الحادث بواسطة الأدلة الجنائية، والتي يتم التعرُّف عليها تُسلّم لذويها من المشرحة، وحال لم تعرف تظل بالمشرحة لوقت محدد، إن جثامين مجهولي الهوية من الهجرات الداخلية والمُتسوِّلين ومن يعيشون على الطرقات، وأرجع أسباب الوفيات لحوادث المرور والقتل العَمد والجوع، إضافةً إلى البرد في فصل الشتاء والغرق في الصيف، بجانب موت كبار السن.

وتم تخصيص مقبرة لدفن الموتى مجهولي الهوية بمنطقة شرق النيل، تم تخصيص مقبرة للجثامين مجهولة الهوية وكان يُقبرون ويُدفنون في مطمورة، بطريقة غير سليمة، سيما وأن الدفن في المقبرة بشواهد وأرقام يسهل الوصول إلى المجهول، ويمكن نبشه بعد (100) سنة في حال التعرُّف عليه وعمل، (DNA) ، ولأهل المتوفي لهم الحق في أخذه أو تركه.

وصمة اجتماعية

وينتشر المُشرّدون في الأسواق الكبيرة والمحطات الكبيرة وأحياء العمارات شارع (41) ومحطة البلابل والشعبي الخرطوم والسوق المركزي وحول مسجد الخرطوم العتيق وميدان أبو جنزير وكوبري الحرية وأم درمان الشهداء وسوق ليبيا والشعبي أم درمان و(سوق صابرين و(14 و17) والحاج يوسف سوق (6) وجبل أولياء سوق اللفة.

وأكّد خبراء اجتماعيون استطلعتهم (استقصائي)، أنّ محلية الخرطوم أكبر بُؤر التّشرُّد، وحذروا المجتمع من التعامُل معهم بالعدوانية والوصف بالإجرام، داعين إلى تقليل الوصمة، وقالوا إنّ المُجتمع غير مُتفاعل مع قضية التشرد، مُشدِّدين على ضرورة تقديم الرعاية والحماية، والخدمات، وترك النظرة الدونية للمشردين وتفعيل الدور التوعوي للمجتمعات التي بها هشاشة وناشدوا المنظمات والخيرين الذين يعملون في مجال التشرد بالتنسيق مع وزارة التنمية الاجتماعية ولاية الخرطوم لرأب الصدع، وترك الحلول الآنية والمُسكِّنات واستبدالها بحلول جماعية تشارك فيها الجهات ذات الاختصاص.

حقوق المشردين

وقالو إن التشرد ليس جريمة وإنهم فئات صالحة يقومون بجميع الخدمات ويساهمون في الإنتاج القومي للدولة، ودعوا لتدريب الكوادر الشرطية للتعامل معهم بصورة أفضل سيما وأن المُشرّد يقع ضحية للجرائم المجهولة والاتهام دون سبب، بجانب تفعيل دور النيابة وزيارة السجون، وحذروا من التعامُل معهم واعتبارهم مُجرمين في كل القضايا للحد من عدوانيتهم للمجتمع، وأكد الخبراء انتهاك المجتمع لحقوق المُشرّدين، مستشهدين بالحوادث المرورية وهروب الجاني بعد الحادث وإهمال المجتمع لهم.

عالم المشردين

وفي الاتجاه ذاته، قال  مدير إدارة دور الإيواء بوزارة التنمية الاجتماعية ولاية الخرطوم، عادل عوض لـ (استقصائي) إن المشردين عالم فريد، فلهم لغتهم الخاصة حيث يتواجدون بالقرب من أقسام الشرطة ويحتمون بها، وأن الوزارة لها شراكة مع شرطة أمن المجتمع ومعنية بالمشردين داخل دور الإيواء أما من هم في الشارع فمسؤولية الحكومة الاتحادية ويتم إدخالهم إلى مراكز الإيواء وفق قرار اتحادي، دار طيبة لتنمية قدرات المشردين ومركز بشائر لتنمية قدرات الفتيات، وأيضاً دار المسنين وأخرى للمسنات، ونفى وجود إحصائية رسمية للمشردين وقال منذ العام 2013 لم يتم عمل مسح شامل نتيجة لتكلفته العالية والظروف الاقتصادية التي تمر بها الدولة.

أسباب التشرد

وبحسب عادل فإن التشرد ظاهرة من المجتمع وإلى المجتمع وعزا الظاهرة إلى الظروف التي مرت على السودان منذ العام 1984 من جفاف وتصحر وحروب ونزوح، والتفكك الأسري عبر انفصال الوالدين أو الوفاة الأمر الذي انتج ظاهرة أطفال الشوارع فاقدي الرعاية.

وأكد سعي الوزارة لجمعهم وإدخالهم للدور إلا أنه عاد وقال لكن الجمع صعب في ظل الظروف الاقتصادية القاهرة وعدم الاستقرار السياسي، وأشار إلى تخرج مشردين من الجامعات وانتساب آخرين للقوات النظامية بجانب من أصبحوا مديري ورش بعد التدريب المهني، مشيراً إلى وجود (5) ورش حرفية في مركز طيبة.

قنابل موقوتة

وصف استشاري الطب النفسي والمجتمعي البروف علي بلدو إن المشردين قنابل موقوته تسير في المجتمع وقد تنفجر في أي لحظة، لافتا إلى أن نسبة التشرد في السودان وصلت لمرحلة مخيفة لا يمكن قياسها وتزداد بشكل يومي وأرجع ذلك، إلى الاضطرابات الأمنية والظروف السياسية التي تمر بها البلاد إلى جانب الفقر وظروف الحياة الصعبة، والتفكك الأسري والعنف المنزلي الذي يتعرض له الأطفال، الأمر الذي يضطرهم لمغادرة المنزل وحركة النزوح واللجوء بسبب النزاعات القبلية في بعض المناطق فضلاً عن انعدام مقومات الحياة والتسرب الدراسي للأطفال والعلاقات الزوجية المحرمة.

وقسم بلدو في حديثه لـ (استقصائي) التشرد إلى جزئي وهو أن يكون الطفل خارج المنزل 16 ساعة وكلي كعدم امتلاك منزل وهو الأكثر شيوعاً، وأشار إلى وجود آثار اجتماعية للتشرد تتمثل في عدم اتزان الطفل اجتماعيا بألا يؤمن بالقيم الحديثة كالمدنية والحضارة والعدالة والانضمام لعالم المخدرات والجريمة المنظمة والعصابات والمجموعات المتفلته، لافتاً إلى وجود آثار نفسية بينها الشعور بالخوف والدونية والعنف ضد المجتمع والتعرض للاعتداءات الجنسية.

ورهن معالجة ظاهرة التشرد بتفعيل الدور الحكومي ووضع خطة نفسية واجتماعية لحماية الأطفال المشردين من خلال توسيع دور الإيواء والتثقيف الاجتماعي بالاضافة إلى إعادة الدمج وتحسين البيئة الاجتماعية في القرى والأرياف.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *