معلومات التواصل

السودان،الخرطوم،الرياض

متواجدون على مدار الساعة

الثلاثون من يونيو.. في تذكّر أجمل مواكب البلاد

تقارير – استقصائي
ليست هي شوارع الخرطوم التي نعرف، لم تعد سماؤها صافية، فقد سرقت الحرب ضحكتها، مثلما قذفت بأهلها بعيدًا عنها. في سودان الحرب، لا عاصمة يمكن الخروج لشوارعها، ولا هتاف “الظالمون عادوا من جديد”، لا قصر يمكن للقابع فيه أن يستلم مذكرة، لا قيادة عامة يمكن الاعتصام أمام بواباتها، لا بري ولا العباسية، لا شمبات ولا الحلفايا، لا جسور يمكن التهديد بإغلاقها، لا كلاكلات، ولا جنون ثوار الجيل الراكب رأس، لا أغنيات ولا بمبان، الجو مشحون بالرصاص. لا “قحاتة” باعوا الدم، ولا حمدوك للشكر أو المطالبة بالسقوط، لا هتاف “العسكر للثكنات” و”الجنجويد ينحل”.

لا مواكب في مدني بالقرب من صيدلية الخير، ولا انتظار للمدفعية. عطبرة، قطار الموت، أوقف كل قطارات الحياة. لا صور تأتي من “العقدة المغاربة”، ولا من مواكب في نيالا، وفاشر السلطان مشغولة بحربها، الأبيض تجاهد في أن تزيح عن وجهها رمال الموت. للأسف، في سودان الحرب لا مواكب للمطالبة بالحياة، فمن يطلب من “عسكري” عدم نهب بيوتٍ يجب عليه حمايتها يختفي في ظروف غامضة.

الإنقاذ كل سوء حدث

قبل ست سنوات، حوّل السودانيون تاريخ “الشر الأعظم” إلى زمان الخير المنتظر. الثلاثون من يونيو لم يكن يومًا عاديًا في تاريخ البلد المضطرب. في الثلاثين من يونيو 1989، أعلن العميد في الجيش السوداني، مدعومًا بحزب الجبهة الإسلامية، مشروع انقلابه لـ”إنقاذ” الشعب السوداني. خلال ثلاثين عامًا من تسلطها على مصير السودانيين وبلادهم، أكدت الإنقاذ على حقيقة أنها كل سوء حدث: شمولية الحزب الواحد، فساد، تحطيم وتكسير لمؤسسات الدولة، عنف منقطع النظير، حروب انتهت بانقسام وتغيير خارطة السودان القديم بذهاب الجنوب لحال سبيله كدولة مستقلة.

كانت ثلاثون عامًا من الإنقاذ ومن مشروع مقاومتها، المقاومة التي تم تتويجها في ثورة ديسمبر، والتي عبّرت عن نفسها ورغبات أمة كاملة في عبارة “تسقط بس”. سقط البشير تلاحقه اللعنات، قطع الشعب رأس النظام، لكن ما تبقّى من الجسد لم ينسَ وظيفته في قهر وقتل الشعب بدم بارد، وبسلاح يدفع قيمته الشعب. عند حرم الجيش، أنهى المجلس العسكري أحد أجمل المشاهد التي رسمها السودانيون، حطم مدينتهم الفاضلة التي اعتصموا فيها، وبمنتهى البساطة ردّدت قياداته: “حدث ما حدث”.

أجمل ما حدث

من وسط آلامهم وجراحهم، بدماء رفاقهم التي ما تزال آثارها على الطرقات، بصور شهدائهم التي يحملونها في الصدور، وبعباراتهم التي يحفظونها عن ظهر قلب، وبيقينهم أن “لم تُهزم ما دمت تقاوم، وما دمت تقاوم ستنتصر”، على جدران المدينة، وفي ظل شبكات الإنترنت المقطوعة، رسموا أحلامهم في حروف: “الثورة باقية والطغاة زائلون”، و”الشعب أقوى والردة مستحيلة”. وهم في تمام علمهم أن ديسمبر هي أجمل ما حدث في هذه البلاد، واثقون أن لا قوة في الأرض يمكنها أن تهزم إرادة الشعب. صنعوا حدثهم، زلزلوا الأرض تحت أقدام الطغاة، احتلوا الخرطوم وكامل مدن البلاد، أعادوا لثورتهم صخبها، وأجبروا الجميع على الاستماع لصوتهم: “حرية، سلام، وعدالة”.

ما حدث من انقلاب على الثورة ومشروعها الهادف نحو الانتقال المدني الديمقراطي، رد عليه “الديسمبريون” بمزيد من الثورة. اختاروا ذات الثلاثين من يونيو ليقولوا للعسكر في شوارعهم: “حكم العسكر ما بتشكر”. الثورة مستمرة، والردة مستحيلة، مؤكدين على حقيقة واحدة مفادها “الشعب أقوى”. وهي القوة التي أجبرت قيادة المجلس على الانحناء للعاصفة والتوقيع على الوثيقة الدستورية، واعتبار الثورة هي مصدر الشرعية والطريق نحو السلطة، قبل أن يعودوا للانقلاب عليها لاحقًا في العام 2021.

الثورة مستمرة

الانقلاب على ديسمبر وقيم جيلها المتحفز من أجل بناء سودان الحرية والسلام والعدالة، عجز عن الانقلاب على الثورة نفسها. من ظنوا أنهم هزموا الثورة بفض الاعتصام، اضطروا لاحقًا للانقلاب عليها بقوة السلاح، وحين عجزوا، انقلبوا على بلد كاملة بالحرب. في وقت لا يزال الثلاثون من يونيو عند “الديسمبريين” هو التاريخ الحاسم، اليوم الذي أخبروا فيه السلطة أن قتل الثوار لا يعني قتل الثورة. الثورة باقية ببقاء المؤمنين بها، باقية في جحافل البشر الذين حوّلوا الخرطوم لساحة مواجهة بسلميتهم المدهشة، باقية حتى باعتراف “المجلس نفسه”.

في استدعائهم لما حدث، يؤكد الديسمبريون أنه لو عاد بهم الزمان للوراء لاختاروا الوقوف في ذات مكانهم، وما تخلف منهم أحد. يقول ديسمبري لـ”استقصائي”: “لو رجع الزمان للوراء، لوقفت وسط نفس الرفاق الذين يهتفون (يا عنصري ومغرور، كل البلد دارفور)، كنت سأطالب بالمدنية وعودة العسكر للثكنات وحل المليشيات، كنت وما أزال مؤمنًا بأن جيل ديسمبر قادر على بناء سودان الحرية والسلام والعدالة، وما نحن فيه الآن سببه الانقلاب على هذه القيم”.

في قفص الاتهام

في موكبه “الأسفيري”، بعد أن ضاقت الشوارع بفعل الحرب، يواجه “الديسمبريون” هجومًا كثيفًا بعبارة “اطلعوا الشوارع كان قدرتوا”، مقرونًا ذلك باتهامات أنهم من أشعل الحرب، متناسين أن من انقلبوا على الثورة السلمية هم من قرروا إطلاق رصاص موتهم على شعب كامل، وتحويل سودان الثورة السلمية إلى سودان الحرب الأهلية.

تغيّرت اللغة من أشعار حميد ومحجوب وأغنيات وردي إلى “البلّ، الجغم، والفتك”. اختفت معالم شارع الستين، لم تعد هناك مؤسسة ولا مواكب. أم درمان اختفت عن المشهد، مجانين “الحاج يوسف” لم يعودوا، لا مدرعة شرطة، ولا ملصقات، ولا صور شهداء تعلقها ديسمبرية على صدرها. وما يجري الآن هو استمرار طبيعي لمقولة “حدث ما حدث”. من فشلوا في هزيمة الثورة بالفض، أعادوا الكرة بالانقلاب، وحين واجه الثوار الانقلاب، أسقطوهم بالسلاح عبر تحالف الجيش والدعم السريع، وانتهى بهم الأمر للحرب. وبدلاً من أن يمنحوا شعبهم “الحرية، السلام، والعدالة”، منحوه ليل كوابيس الحرب الطويل.

سننتصر

عبارة يرددها ديسمبري على صفحته في فيسبوك، قبل أن يدعو رفاقه لإنجاز موكب “أسفيري” يؤكدون من خلاله أن ديسمبر وُلدت لتنتصر. دعونا نخبرهم أن هذه البلاد لن تعود للوراء مهما حدث، نخبرهم بأننا نعرف أن من يرهبون الأطفال، ويقتلون الشيوخ، ويغتصبون النساء، ولصوص المنازل وغرف النوم، لن يجلبوا ديمقراطية، وآخر من يمكن أن يكونوا حراس الثورة. وأنه لا “كرامة” لسوداني في بلاد تمزقها الحرب وتضيق بشعبها بأفعال يمارسها الجيش.

دعونا نسمعها لهم مرة أخرى: “العسكر للثكنات والمليشيات تنحل”. دعونا نخبرهم مرة أخرى أن فريق الحرب في النهاية مصيره الهزيمة. هذا الشعب لن يُهزم، وديسمبر الشعب لن تهزمها الحرب.

في آخر المطاف، ستنتصر ديسمبر لشهدائها، ولصدق المؤمنين بها، ستنتصر لشعب كامل، وللجنود المؤمنين بجيشهم، وللجيش نفسه. ستنتصر للفاشر، دنقلا، الدمازين، كادقلي، بابنوسة، نيالا، الضعين، سنار، وكسلا. ستهزم من يظنون أن السودان معروض للبيع في أسواق الخيانة الدولية. ستنتصر للخرطوم وتعيدها سيرتها الأولى، تنظّف شوارعها وتكتب لافتة كبيرة: “لم يُخلق السوداني للهزيمة”، سيعيش في أرضه بعزة وكرامة، ولا كرامة أكثر من أن تخلو البنادق التي تقتلنا وتهجّرنا من رصاصاتها.

الثلاثون من يونيو تسقط الحرب ومن يشعلون فتيلها.

ولتأكيد قيمة انتصار ديسمبر بموكب الثلاثين من يونيو، يمكننا العودة لمقولة رددتها السيدة إيمان، والدة الشهيد قصي حمدتو، عند افتتاح مركز صحي باسم الشهيد في منطقة جبرة قبل خمس سنوات: ما يهمها ليس أن يكون هناك مركز طبي باسم ابنها، بقدر اهتمامها بأن يكون المكان لائقًا بتقديم خدماته لأهل جبرة. وهي التي سبق أن ردّدت: لا يهمها أن يُطلق الرصاص على قاتل ابنها، ما يهمها أكثر ألا نتراجع عن القيم التي مات من أجلها: الحرية، السلام، والعدالة.

Share:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *