معلومات التواصل

السودان،الخرطوم،الرياض

متواجدون على مدار الساعة

من الواضح أن المؤتمر الوطني والحركة الإسلامية هما المستفيدان المباشران من هذه الحرب الدائرة، حيث توهما أن حسمها سيكون سريعاً، لكن “لم تأتِ الرياح كما تشتهي السفن”. انصبت كل جهود الحركة على التعبئة، ونجحت في حشد كثير من المتضررين من انتهاكات قوات الدعم السريع. لكن المفارقة هي أن سلوك بعض المنتسبين أعاد للأذهان ممارسات التنظيمات المتشددة في التعامل، مما يفاقم من عزلتها.

الصباح الجديد

أشرف عبدالعزيز

سوريا ما (تشيف)!!

تفاجأت، بل دُهشت، من تعليق أحد الأصدقاء على مقالاتي السابقة حول “ديربي جدة” والانعطافة نحو السلام (برعاية ترامب وبن سلمان). رأى الصديق أن تحليلي لسياق الأحداث ليس صحيحاً، وأن الخاسر الأكبر من تحقيق أي سلام في السودان لن يكون المؤتمر الوطني وحركته الإسلامية، بل على العكس، سيتم مكافأتها وواجهاتها، مستشهداً بما حدث مع بعض التيارات في سوريا بعبارته الصادمة: “سوريا ما تشيف”!

وكأن الذاكرة الدولية سميكة، تتجاهل محاولات الحركة الإسلامية السودانية لتصدير فكرها طوال مسيرتها. هذه المحاولات تعارضت مع مصالح دول عديدة، واعتُبرت تهديداً أمنياً مباشراً، كما تجلّى في استضافة “الأفغان العرب” (وعلى رأسهم بن لادن)، وتأسيس المؤتمر الشعبي العربي الإسلامي (الذي أصبح لاحقاً المؤتمر الشعبي العالمي). يُضاف إلى ذلك الاتهامات بمحاولة اغتيال الرئيس المصري حسني مبارك، وتفجير سفارتي الولايات المتحدة بنيروبي ودار السلام، وما حدث للمدمرة “كول” قبالة الشواطئ اليمنية.

لقد دفع الشعب السوداني جراء هذه الأخطاء الجسيمة ثمن مقاطعة دولية واسعة وعقوبات مستمرة. وتحولت الحياة في السودان إلى جحيم لا يُطاق، حيث تفشت المحسوبية وساد الإقصاء واشتعلت الحروب في الأطراف. انتهت حرب الجنوب بالانفصال، وارتفعت وتيرة حرب دارفور التي خلّفت أكثر من 300 ألف قتيل باعتراف الحكومة نفسها. وتواصل هذا البؤس بتفشي الرشوة والفساد الذي ضرب أركان الدولة، وسادت سياسة “فرّق تسد”، خاصة في دارفور، حيث عمل نظام الإنقاذ على تحويل الصراع فيها إلى صراع أهلي بين “العرب” و”الزرقة”، مؤسساً ميليشياته الباطشة المعروفة بـ “الجنجويد”.

بعد نفاد صبر الشعب، خرجت الجماهير في ثورة عارمة بهتاف “تسقط بس”، واستطاعت بالفعل اقتلاع النظام وبدء عهد جديد. إلا أن “بارونات” النظام القديم لم يتقبلوا هذا التحول، وعمدوا إلى تخريب الفترة الانتقالية مستفيدين من خلاياهم داخل الأجهزة النظامية، لينجحوا في الانقلاب على السلطة المدنية في 25 أكتوبر. لكن هذه المرة، دب خلاف عميق داخل المكونات العسكرية، حيث تراجع الدعم السريع عن المضي قدماً في الانقلاب بعدما تبيّن له أن الحركة الإسلامية تقف وراءه. وتحت الضغوط الشعبية والدولية، وافقت قيادات الأجهزة النظامية على العودة للحوار مع القوى المدنية، وكادت الجهود تُثمر بالتوقيع على الاتفاق الإطاري.

هنا يكمن المفصل: بدلاً من أن تستغل الحركة الإسلامية العجز الذي لازم أداء الحكومة الانتقالية وتتحرك سياسياً، خشيت من أن يعيد الاتفاق الإطاري تفعيل لجنة إزالة التمكين واسترداد الأموال المنهوبة منذ العام 1989، مما كان سيكشف فساد قياداتها المتغلغلة. وعليه، قررت الحركة التعبئة الشاملة، ووحدت صفوفها تحت ستار “التيار الإسلامي العريض”، وكان خطابها واضحاً برفض توقيع الاتفاق الإطاري مهما كلّف الثمن.

من الواضح أن المؤتمر الوطني والحركة الإسلامية هما المستفيدان المباشران من هذه الحرب الدائرة، حيث توهما أن حسمها سيكون سريعاً، لكن “لم تأتِ الرياح كما تشتهي السفن”. انصبت كل جهود الحركة على التعبئة، ونجحت في حشد كثير من المتضررين من انتهاكات قوات الدعم السريع. لكن المفارقة هي أن سلوك بعض المنتسبين أعاد للأذهان ممارسات التنظيمات المتشددة في التعامل، مما يفاقم من عزلتها.

صحيح أن الحركة الإسلامية لا تزال ممسكة بمفاصل الدولة ولها وجود قوي داخل الأجهزة النظامية، ومن الصعب تجاوز هذا الواقع بالنسبة لقيادات الجيش. ولكن الضغوط الدولية هذه المرة قوية جداً، وكالطوفان لا تُبقي ولا تذر. ومادامت الحركة الإسلامية عاجزة عن الانتقال من “ماضويتها” وترديد شعاراتها القديمة مثل: “أخي أنت حر وراء السدود”، فإنها لن تستطيع تسويق نفسها من جديد على أمل أن يصبح التعامل معها كـ “إسلامي سوريا”. إن إرث التخريب والفساد والعزلة الدولية سيبقى طوقاً حول عنقها، يمنعها من أن تكون جزءاً من الحل، ويؤكد أن أي مكافأة لها ستكون مجرد تهدئة مؤقتة تسبق انفجاراً أكبر.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *